في قاعة المغادرين

 

 

د. إبراهيم بن سالم السيابي

في قاعة المغادرين؛ حيث تمتد الجدران الزجاجية لتعكس أضواء الرحيل، يتحوّل المطار إلى مسرح يومي لمشاعر متناقضة؛ هنا تتشابك القصص، وتتناوب اللحظات بين الوداع والانتظار، تنبعث رائحة قهوة الترقب، وعبق حقائب السفر، بينما تزدحم الوجوه بأمل يرافقه ترقّب لا شيء ثابت هنا سوى الحركة الدائمة، والسعي الدؤوب لكل من هو على حافة مغامرة جديدة.

في هذا الفضاء العابر، بين خطوات المسافرين وصوت الحقائب المتدحرجة، يتشكل عالم من اللقاءات المؤقتة، وتتصافح الأرواح التي جمعتها الصدفة، وربطها الزمن والمكان، هنا حيث تتقاطع البدايات بالنهايات، يُولد الحنين، وتُسطر الذكريات.

كنت جالسًا في زاوية هادئة من القاعة، أحتسي فنجان قهوتي الساخنة، وأقرأ الفصل الأخير من رواية، بينما أراقب الوجوه العابرة، لعلني أعرف أحدهم أو أتعرف على رفيق جديد لكي يكون رفيقاً لي في هذا السفر، وتجمعنا وجهة مشتركة في عالم السفر الطويل.

فجأةً، لمحت أحد الأصحاب، رحّبتُ به، وسألته عن سبب وجوده، فتبسم ضاحكا وقال: "أنا مسافر معك على نفس الطائرة، لعلاج والدتي العزيزة". بدأ بيننا حديث عابر عن السفر لأغراض العلاج، وتشاركنا الرأي بأن العلاج في الخارج ليس شرطاً بسبب ضعف الخدمات الطبية المحلية واتفقنا على وجود الكوادر المؤهلة التي تستحق منَّا الشكر والتقدير، وإنما هو أحيانًا البحث عن رأي طبي آخر، أو الهروب من فترة الانتظار لموعد الطبيب، وفي الوقت ذاته، البعض يراها فرصة تجمع بين العلاج والتسوق والاستجمام.

وبينما نحن في خضم الحديث دلَّهُ قلبُهُ لأن يلتفت، فلمحها هناك في آخر الرواق تنظر إليه فذهب ليتأكد ثم عاد، قال لي: يا لها من صدفة "إنها هنا، في نفس القاعة، مع أسرتها" فسألته بفضول من هي؟ فصمت، قبل أن يضيف بصوت خافت: "إنها الحب القديم". فرأيت في عينيه بريقًا لم أعهده فيه من قبل، بدا وكأنَّ ذكريات دفينة نُبشت فجأة من أعماق قلبه فأنا كنت أظن بأنَّ القصة قد انتهت منذ زمن، فقد أخذت الحياة كلٌّ منهما في طريقه، إلا أن مشاعر صاحبي حملت حنينًا صامتًا، لم يتمكن الزمن من محوه. ففي زحام قاعة المغادرين، تلاقت أعينهما بعد سنين الفراق، فارتجف الزمن وتوقف النبض لحظة، لم يكن بينهما كلام، فقط نظرات مثقلة بالشوق وألم الذكريات، تنبض بما بقي في القلب من حب لم يمت، ثم افترقا بصمت، وكلٌ منهما يجر خلفه وجع الحب الأبدي الذي لا يشيخ.

كنت أنصت إليه، وقلبي يُعيد تركيب المشهد كما لو أنه يقرأ عليَّ رواية لم تكتمل، تلك الذكريات التي تلتصق بنا، وتظل نابضة رغم تغيّر كل شيء، هي ما يجعل بعض اللحظات عصيّة على النسيان، مهما مرّ عليها من وقت.

عند الوصول افترقنا، ومضى كلٌّ في سبيله، ونحو وجهته، وفي اليوم الأخير من رحلتي، بينما كنت أتجول في السوق لشراء بعض الهدايا، لمحت صاحبي في أحد المحال، لم يخبرني بشيء عن رحلته، لكنني كنت متأكدًا من ملامحه، من عينيه، من رعشة يديه، من تلعثمه بالكلام، بانه ترك كل شيء هناك في البلاد في قاعة المغادرين ليكون معها ويرافقها قلبه، وعقله، وروحه، فأي حب هذا لا يعرف الزمن، واي شوق هذا يهيم فوق السحاب!

بينما كانت والدته تتجول برفقة مرافقتها، وهي تغمرها السعادة وبدت كأنها نسيت كل الألم، والإبر، والأشعة، وساعات الانتظار الطويلة، كانت والدته مُستغرقة في اختيار الهدايا، ربما لأبنائها، أحفادها، أو حتى لصديقاتها أو جاراتها، أنهن أمهات الزمن الجميل فكان واضحًا أن الرحلة منحتها فرصة جديدة لتعيش، بعيدًا عن مرارة العلاج، فلحظة تسوّق بسيطة أعادتها إلى الحياة، وذكّرتها بأن السعادة يمكن أن تكون في أدق التفاصيل.

في بعض الأحيان، هذه هي القيمة الحقيقية للسفر، ليس فقط الانتقال من مكان إلى آخر؛ بل انتقال في دواخلنا، في مشاعرنا ووعينا وذكرياتنا، هو لحظة إعادة اكتشاف الذات، والفرح، والدهشة.

قاعة المغادرين، إذن، ليست مجرّد محطة سفر؛ بل مسرح لحكايات مكتومة، وذكريات لا تُنسى، ومشاعر لا تُروى إلّا بصمت، في هذه الصالة تبدأ القصص وتنتهي، وتظل الأرواح تحوم بين المقاعد، تبحث عن وداع، أو تترقّب لقاء.

في النهاية، يظل المطار أكثر من مجرد مكان أو بوابة للذهاب والعودة؛ إنه مسرح مفتوح لمشاعر البشر، ومكان لا يجمع فقط الرحلات؛ بل يجمع الحياة نفسها بفرحها وقلقها، بحنينها وأملها، بكل ما يجعلنا بشرًا نحمل كل هذا الكم من المشاعر والأحاسيس.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة