د. إسماعيل بن صالح الأغبري
مسقط عاصمة وطننا الحبيب سلطنة عُمان، باتت محط أنظار كل وسائل الإعلام، حول العالم، والجميع يترقب ما ستسفر عنه المفاوضات المُنعقدة بين الجمهورية الإسلامية الإيرانية والولايات المتحدة الأمريكية.
الطرف الأول إيران الدولة الإقليمية الصاعدة، والرافضة للانضواء تحت العباءة الغربية منذ عام 1979، دخل الغرب كله معها منذ ذلك العام حتى الساعة في مُناكفات ومُلاسنات إعلامية واتهامات مُتبادلة ثم تطورت إلى فرض عقوبات مشددة من الغرب بصفة عامة والولايات المتحدة الأمريكية بصفة خاصة، مع الإصرار على مُواصلة الضغوط عليها ونسبة كل سوء لها، حتى لو ثار بركان هامد أو وقع زلزال في أقاصي أو أدغال الأرض نُسب إليها بالتسبب في انبعاثه أو هيجانه!!
أما الطرف الثاني في المفاوضات فهي الولايات المتحدة الأمريكية الدولة العظمى في العالم المتربعة على عرش التسلح وكرسي التقنيات وقاعدة القوة العسكرية الضاربة والأساطيل التي تجوب بحار العالم ومضائقه ومحيطاته والقواعد العسكرية في مختلف قارات العالم. الولايات المتحدة والاستثمارات العالمية فيها والدولار الذي له فعل الساحر في اقتصادات العالم إن استقر استقرت الدول، وإن اضطرب حبله اضطربت الدول، به تقيم أسعار الذهب الأسود، وبه الصناديق السيادية تتفاخر فكم عندك من الدولار كم أنت ذا وزن بين الأمم.
المفاوضات في مسقط هذه المرة غير عادية، وإن كان التقريب بين الدول المختلفة في مسقط ومن مسقط أمرًا عاديًا وتسهيل اللقاءات بين الدول أو بين الأطراف المختلفة في الدولة الواحدة هو سبيل دائم للدبلوماسية العُمانية، ومشهود لسلطنة عُمان بذلك، لأنَّ دبلوماسيتها مقبولة وموثوق بها إقليميًا ودوليًا.
الدبلوماسية العُمانية لديها تراكمات من الخبرات حول جمع الأطراف وأساليب الحوار وكيفية التسهيل والتقريب وآليات الوساطات مع حفظ ملفات الفرقاء وما دار في اللقاء، إضافة إلى الخلو من الضجيج حرصًا من دبلوماسيتها على إنضاج العمل المُرَاد بلوغه وتحقيق الأهداف المنشودة.
وأُديرت في مسقط عاصمة سلطنة عُمان لقاءات كثيرة، وجرت على أرضها تسهيلات ووساطات عديدة، كُلل أكثرها بالنجاح، ما كان له الأثر الإيجابي على استقرار الإقليم والعالم وتخفيف حدة التوترات أو التهديدات المتبادلة. ولعل خير شاهد على ذلك تلك المفاوضات النووية بين مجموعة (5+ 1) والتي أسفرت عن اتفاق غربي أمريكي من جهة وإيراني من جهة أخرى في عهد الرئيس الأمريكي الأسبق باراك أوباما.
الأطراف ذات الأهداف المتباينة لقاؤها في عُمان غير عادي لعراقة الدبلوماسية العُمانية في هذا الشأن، ولا أدل على ذلك من اختيار إيران لسلطنة عُمان أرضًا للقاء وتبادل الآراء، بالرغم من احتفاظ طهران بعلاقات طيبة مع دول أخرى، ثم إن الولايات المتحدة أيضًا واثقة في دبلوماسية سلطنة عُمان وقد لمستها مرارًا في مفاوضات أخرى. أما المفاوضات الجارية حاليًا فهي من حيث استضافة مسقط لها عادية، إلّا أنها أيضًا غير عادية من حيث الظروف والملابسات ومن حيث التوقيتات؛ فإيران دولة ذات أيديولوجية صلبة من حيث الرفض التام التدخل في شأنها الداخلي أو محاولة منعها من التطور العلي والتقني أو محاولة إفقادها لسياستها وجعلها تدور في الفلك الغربي أو أن ترى ما يراه الغرب، والإيرانيون عامة يعتدون بِهُويتهم ويرفضون المساس بثقافتهم أو السعي إلى عولمتهم على الطريقة الغربية.
المفاوضات غير عادية لأنَّ الإيرانيين وقعوا على الاتفاق النووي الأول عام 2015 والتزموا به بشهادة الأمم المتحدة ووكالة الطاقة الذرية، إلّا أن بقية الأطراف سرعان ما غيرت رأيها فيما اتفقت ووقعت عليه، وهذا يعني أن عنصر فقدان الثقة بين الأطراف هذه المرة يحتاج إلى تعزيز وتقديم براهين لإزالة الشكوك وإقناع الطرف الإيراني بجدية من يتفاوض معه؛ فالعقوبات القصوى خانقة لاقتصادها وتَحِدُ من انطلاقها في الجوانب التنموية والتقنية والعلمية، وهي مفروضة عليها رغم توقيعها الاتفاق النووي عام 2015، والاتحاد الأوربي ذاته وعد إيران إذا بقيت على الاتفاق- رغم انسحاب الولايات المتحدة- بأنها سيقوم بتعويضها والاستثمار على أرضها، إلّا أن ما جرى خلاف ذلك؛ بل صَعَّد الغرب من خطاباته ضدها كلما صَعَّدت إسرائيل ضدها.
المفاوض الآخر الولايات المتحدة الأمريكية في عهد الجمهوريين هذه المرة، وهُم الذين لم يكونوا على قناعة بالاتفاق النووي الأول، والرئيس الأمريكي دونالد ترامب لا يقل حدة وتصلبًا؛ بل هو صاحب شعار "أمريكا أولًا"؛ أي هي أولًا في كل ميدان وشأن سياسي واقتصادي وتقني وعسكري، ولا أدل على تطبيق هذا الشعار من حزمة الرسوم الجمركية على عشرات الدول الصديقة وغير الصديقة للولايات المتحدة الأمريكية، فيما لم تجرؤ على الرد بالمثل دول الاتحاد الأوربي؛ بل ولم تجرؤ هذه الدول على الانتقاد إلّا بعضها على استحياء وبصوتٍ خافتٍ، ما يدل على الرغبة في عدم التصعيد مع أمريكا، وما يدل على أن العالم ما يزال يُدار وفق سياسة القطب الواحد الذي لا منافس له حتى الساعة.
الصين تكاد تكون الوحيدة التي جاهرت برفع الرسوم ضد الولايات المتحدة الأمريكية، وقد ردت الأخيرة بمضاعفة الرسوم على الصين، إلّا أن الصين لم تبلغ بعد ما بلغته أمريكا ودولارها من هيمنة ومكانة.
الاقتصاد والاستثمارات وميل الميزان التجاري لصالح أمريكا وأمريكا أولاً هو ما تسعى إليه أمريكا، ولا أدل على ذلك من عزم البيت الأبيض على محاولة إنهاء العمليات العسكرية بين روسيا وأوكرانيا، ولكن بمقابل وهو استفادة أمريكا من مخزون المعادن في أوكرانيا.
إذن هذه المفاوضات في مسقط، غير عادية هذه المرة؛ فكلا الطرفان مُتشبِّثٌ برؤيته ومصلحته الوطنية، وكلاهما قوة لا يُستهان بها؛ فإيران الدولة الإقليمية الصاعدة وأمريكا القوة السياسية والعسكرية والاقتصادية النافذة.
المفاوضات غير عادية هذه المرة لأنها أشبه ما تكون بماراثون سباق وتحقيق نقاط، وهي غير عادية من حيث استمساك كل طرف بكبرياء الحاكمين فيه؛ فالظهور بمظهر العاجز يجعل الحاكمين في الجانبين في حرج أمام شعوبهم وأمام الشعوب الأخرى، وكأن التحدي هو تحدي إرادات وإثبات وجود.
إيران تكتفي بالتفاوض حول شيء واحد وهو عدم السعي إلى امتلاك سلاح نووي، وأمريكا راغبة في توسيع محتوى التفاوض إلى السلاح النووي ثم قوة إيران الصاروخية ثم ما تزعمه الدوائر الغربية من دور إيراني مؤثر في المنطقة والإقليم، وهذا يعني عدم وجود أي ظفر لإيران فضلًا عن قوة تحفظ لها استقلالها وقدرتها في الدفاع عن نفسها أمام التهديدات الإسرائيلية خاصةً.
المفاوضات غير عادية لأن المفاوض الآخر لا يمكن أن يقبل بشيء دون أن تستفيد منه أمريكا اقتصاديًا كالفوز بكعكة الاستثمارات الثقيلة وليس الفتات أو الهزيلة في إيران.
الإيرانيون عمومًا أهل دهاء وتمرُّس في السياسة، ينسجونها أدق من نسجهم السجادة الإيرانية، ولهم صبر يكاد كصبر أيوب عليه السلام، فقد فاوضوا أمريكا والغرب وحدهم لمدة 10 سنوات حتى تم التوقيع على الاتفاق النووي السابق، حتى مل الغرب وأُرهق، بينما المُفاوض الإيراني لم يُصب بشيء من ذلك، ثم إن شأنهم الطبخ على نار هادئة.
ومع أن الإيرانيين أصحاب أيديولوجية، إلّا أنهم أيضًا براجماتيون (عمليون) إذا ضاق عليهم الأمر، وتلك لهم منقبة؛ فالجبل إن صادمته برأسك تكسر، وإن راوغته أو أبديت دبلوماسية السياسة وواقع الإدارة التقطت الأنفاس وعاودت النشاط.
أما مسقط فسياستها جَمعُ الأطراف والتقريب بينها وتذليل العقبات، لكنها ليست طرفًا في هذه الإشكاليات. مسقط ترغب في إطفاء الحرائق المشتعلة في الإقليم والعالم، كما ترغب في أن تبقى الممرات والمضائق المائية بعيدة عن مُنغّصات العبور الآمن للسفن الناقلة للذهب الأسود والبضائع.