بيروبيجان الوطن اليهودي المنسي وسر التعتيم الصهيوني

 

 

 

د. لولوة البورشيد

 

 

هل تعلم أيُّها المواطن العربي أنَّ إسرائيل تعمل جاهدة على إخفاء حقيقة وجود جمهورية اليهود الأولى "بيروبيجان"؟ في قلب قارة آسيا، وفي مناطق جنوب شرق روسيا، تقع جمهورية "بيروبيجان"، التي ربما لا يعلم بوجودها الكثيرون. تشكل هذه الجمهورية الوطن الأول لليهود في العالم، وقد كانت نقطة البداية لهجرتهم قبل أن يبرز مفهوم الصهيونية وتوجههم نحو فلسطين. لم يعد بإمكاننا تجاهل هذا التاريخ المُعقد والحساسية الثقافية والسياسية المرتبطة به.

لكن السؤال الذي ينبغي علينا طرحه هو: لماذا يظل المواطن العربي غافلًا عن وجود بيروبيجان؟ هل هو نقص في المعلومات، أم هو تعتيم مقصود على هذه الحقيقة التاريخية؟ الشواهد تشير إلى أن إسرائيل ومن ورائها القوى الغربية تفضل إبقاء هذا الملف طي الكتمان، خوفا من أن يتم الترويج لفكرة "عودة اليهود إلى موطنهم الأول".

هذه الجمهورية هي الوطن الأول لليهود في العالم، وكانت هجرتهم إليها قبل فلسطين، إلى أن ظهرت الصهيونية وفكرة توطين اليهود في فلسطين. كل ما تخشاه إسرائيل والدول الغربية الداعمة لها هو الترويج لفكرة عودة اليهود إلى موطنهم الأول في هذه الجمهورية، وإقناع العالم بعودة آمنة لليهود المقيمين في فلسطين إلى جمهورية بيروبيجان ليعيشوا بأمان وسلام؛ فهذه الجمهورية قادرة على توطين كل اليهود بالعالم بمن فيهم اليهود المغتصبين لأرض فلسطين.

 

تأسست منطقة الحكم الذاتي اليهودية في بيروبيجان عام 1928 بقرار من الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين، بهدف توفير موطن لليهود داخل الاتحاد السوفيتي. كانت هذه المنطقة، التي تبلغ مساحتها حوالي 36 ألف كيلومتر مربع- أي ما يعادل مساحة دولة مثل سويسرا- ملاذًا آمنًا لليهود قبل عقود من إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948. هاجرت إليها أعداد من اليهود من مختلف أنحاء العالم، وتم تشجيع ذلك بدعم من يهود أمريكا أنفسهم، لكن هذه التجربة لم تستمر طويلًا، إذ تحولت الأنظار لاحقاً نحو فلسطين مع صعود الحركة الصهيونية.

ما يثير الدهشة أن هذه الجمهورية كانت قادرة على استيعاب اليهود من جميع أنحاء العالم، بما في ذلك أولئك الذين استقروا لاحقًا في فلسطين. فمع كثافة سكانية منخفضة تصل إلى 14 نسمة لكل ميل مربع، مقارنة بـ945 نسمة في إسرائيل، كانت بيروبيجان تمتلك القدرة على أن تكون بديلًا حقيقيا للوطن اليهودي، دون الحاجة إلى نزاعات أو تشريد شعوب أخرى.

لكن الصهيونية العالمية شهدت هذه الفكرة كتهديد لمُخططاتها لتأسيس دولة يهودية في فلسطين، خاصة مع تزايد الهجرات إلى هذه المنطقة. إنَّ التداعيات الناتجة عن رفض عودة اليهود إلى بيروبيجان بدلًا من فلسطين تكشف عن الأبعاد السياسية العميقة التي تحرك الصراعات في المنطقة.

 

ومن أهداف الصهيونية العالمية، التي ترى في فلسطين ليس فقط وطنا قوميا، بل أداة استراتيجية لخدمة المصالح الغربية في الشرق الأوسط.

يعود هذا التوجه إلى ما أُسس له في مؤتمر هنري كامبل-بانرمان عام 1907، الذي وضع خطة لتأسيس كيان صهيوني في قلب الوطن العربي كحاجز يحمي المصالح الاستعمارية الغربية، ويضمن السيطرة على المنطقة. وجود إسرائيل اليوم يعتمد على تبادل المنافع مع الغرب، حيث تستخدم كأداة لمواجهة أي تهديد لتلك المصالح، وخاصة من العرب.

تبرر هذه التفاصيل المختبئة من التاريخ، تتعلق بكيفية استغلال الصهيونية العواطف والمآسي لتبرير تشريد الفلسطينيين والاستيلاء على أراضيهم هذا التعتيم المتعمد يظهر كيف نجحت الصهيونية في خداع العالم، بينما كان لليهود موطن آخر لم يستغل.

ومع تفكك الإتحاد السوفييتي في أوائل التسعينيات من القرن الماضي، كانت بيروبيجان مؤهلة لإعلان استقلالها كدولة مستقلة، مثلما فعلت الشيشان وغيرها. لكن الصهيونية عملت على منع ذلك، خوفًا من أن تصبح بديلًا جاذبًا لليهود بدلا من فلسطين. وظهور دولة يهودية مستقلة في روسيا كان سيعرض المشروع الصهيوني في فلسطين للخطر، ويحول وجهة هجرة اليهود بعيدًا عن الشرق الأوسط.

الأمر المثير للاستغراب هو صمت العرب والمسلمين عن هذه الحقيقة. فلماذا لا يتحدث المواطن العربي عن بيروبيجان؟ ولماذا لا تروج كبديل لإنهاء الصراع وإعادة اليهود إليها، مما يتيح عودة الفلسطينيين إلى أراضيهم؟ هذا التجاهل قد يكون نتيجة غياب الوعي، أو ربما التعتيم الإعلامي الذي فرضته إسرائيل والغرب، أو حتى انشغال العرب بقضايا أخرى. لكن هذه الحقيقة تمثل فرصة ذهبية لإعادة طرح القضية الفلسطينية من زاوية جديدة.

ومع ذلك، تبقى الأسئلة: هل هو العجز عن مقاومة الروايات السائدة، أم أن هناك رغبة غير معلنة في تجاهل الحقائق المزعجة؟ الوقت قد حان لتسليط الضوء على هذه الحقيقة، وفتح حوار عميق حول الهوية والحقوق التاريخية، حتى نستطيع فهم وتحليل الصراع الراهن بدقة وموضوعية.

التعتيم الإعلامي على بيروبيجان ليس صدفة؛ فالإعلام الإسرائيلي والعالمي يركز على النزاع الفلسطيني -الإسرائيلي كقضية مركزية، بينما يهمش أي بديل قد يضعف الرواية الصهيونية. بيروبيجان، بانخفاض سكانها اليهود (أقل من 1% اليوم) وبُعدها الجغرافي والثقافي عن إسرائيل، لا تمثل جاذبية إعلامية أو سياسية. كما أن السياسة الإسرائيلية تركز على تعزيز الهوية اليهودية في فلسطين فقط، مما يجعل بيروبيجان تجربة تاريخية منسية لا تتماشى مع الهوية الوطنية المعاصرة لإسرائيل.

تأثير بيروبيجان على العلاقات الدولية هل يمكن أن تؤثر بيروبيجان على العلاقات الروسية -الإسرائيلية؟ التأثير يبدو محدودا ورمزيا. فالعلاقات بين روسيا وإسرائيل تعتمد على قضايا استراتيجية مثل الأمن والتجارة، وليس على وجود منطقة يهودية ذاتية في روسيا. وقد يعزز تاريخ اليهود في بيروبيجان الروابط الثقافية بين البلدين، لكنه لا يشكل عاملًا حاسمًا. أما بالنسبة للعلاقات الروسية-العربية، فإن إحياء فكرة بيروبيجان كبديل قد يحسن صورة روسيا لدى العرب، لكنه لن يغير التوازنات السياسية الكبرى التي تحكم هذه العلاقات وتكون مرتبطة بأبعاد سياسية واقتصادية أخرى، تتخطى مسألة الوجود التاريخي لليهود في روسيا.

تبقى الإجابة على السؤال حول سبب صمت العرب والمسلمين عن هذه الحقيقة غامضة. قد يعزى هذا الصمت إلى غياب المعرفة الدقيقة حول الموضوع، أو ربما إلى الخوف من تأثير هذا الخطاب على الوضع الراهن في المنطقة. لذا، فإن وجود جمهورية بيروبيجان وحقائقها يجب أن تناقش بشكل أعمق، إذ إن ذلك قد يفتح أبوابا للحوار وفهم أوسع للتاريخ المعقد للصراع العربي الإسرائيلي.

جمهورية بيروبيجان تمثل حقيقة تاريخية تثبت أن لليهود موطنا آخر غير فلسطين، وأن الرواية الصهيونية التي بُنيت على فكرة "شعب بلا أرض" لم تكن سوى أداة لتبرير احتلال فلسطين. التعتيم عليها يخدم مصالح إسرائيل والغرب.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة