.. ورحلت الهاشمية

 

د. إبراهيم بن سالم السيابي

 

من الأحداث المحفورة بالذاكرة منذ أيام الطفولة، أيام عاشوراء؛ حيث كانت تأخذني الوالدة رحمة الله عليها إلى مأتم الحسين، كان هناك صوت عذب، فهو صوت يلامس القلوب ويترك تأثيرًا عميقًا في النفس.

ويمكن أن نصف هذا التأثير بأنه "رقيق"، "مؤثر"، "شجي"، يقرأ عن وصف الأحداث في موقعة كربلاء، ويتخلل هذه القراءة بعض القصائد الملحنة عن نفس المناسبة ونفس الأحداث. الإلقاء يعيد إليك أحداث كربلاء تصويرًا خياليًا بتفاصيلها وكأنها حدثت للتو، وبالتالي تحدث في نفسك أثرًا عميقًا، وكأنك المعني، وكأنك كنت هناك تشهد الواقعة وقد خذلتَ الحسين فيمن خذلوه وتبكي على ما أصابه.

هاشمية أو الهاشمية كما تُسمى نظرًا الى نسبها الرفيع، الأم والقارئة والمعلمة التي عاشت بيننا بصوتها الشجي ونور علمها الذي استنار به أجيال والتي كان لها تأثير فيمن حولها ومجتمع الولاية ككل. غادرت عالمنا اليوم وانطفأت شمسها للأبد، كانت هي بقراءتها بداية من علمني ما هو إرث الحسين الحقيقي ولماذا تبكي عليه البواكي، وبعدها قرأت كيف كان رمزًا للثبات على المبادئ، وكيف وقف مع قلة من أصحابه في وجه جيش كامل، لكنه لم يخضع أو يتزحزح عن موقفه، ولم يتزعزع أمام تلك القوة، بل بقي ثابتا على الحق حتى استشهد، موقف الحسين الذي تربى في بيت النبي الكريم  يعكس  كيف يمكن للإنسان أن يعيش كقائد للمبادئ وهذا الإرث يتوارث جيلًا بعد جيل رغم رحيل الحسين بعد هذه السنين، وكيف أن الثبات على الحق قد لا يعني التفوق والانتصار في اللحظة؛ بل يعني الحفاظ على القيم، وعلى الكرامة، وعلى العدالة.

تعلمنا من الراحلة أن البكاء على الحسين ليس مجرد دموع تتناثر؛ بل هي دموع تتفجر من أعماق القلب، دموع تكون شاهدًا على وقفة مع الذات، ومراجعة دائمة للمواقف التي نتخذها في حياتنا اليومية، فقد كانت تعلمنا من خلال صوتها الشجي وعلمها المستنير كيف نعيش في ضوء تلك القيم التي حملها الحسين ودافع عنها ودفع حياته ثما لها، وكيف ننظر إلى الحياة من خلال مبادئه، وكيف نتصدى للظلم بكل شجاعة ووفاء، مهما كانت التحديات.

لم تكن الهاشمية فقط تقرأ وتنشد وتعلم؛ بل كانت تعيش في المجتمع بما تقوله من خلال مواقفها، ومن خلال تلك الروح الطاهرة التي كانت تجسدها في كل مرة كانت تعطينا دروسا في الصبر، في الثبات، وفي التضحية، حتى نعرف كيف نواجه الحياة بصلابة، كما واجه الحسين في كربلاء جيشًا كاملًا، وهو يعلم أن النصر ليس في البقاء على قيد الحياة؛ بل في الاستمرار في المضي قدما على دروب الحق.

وما أشبه اليوم بالبارحة، فلا يمكن عندما نتذكر الراحلة وسيرتها العطرة وهي من تعلمنا على يديها ثبات الحسين وسيرة الحسين في كربلاء وموقفه ومواجهته الموت، ألا نتذكر غزة والحرب على غزة وأهل غزة الشجعان الذين ثبتوا على مواقفهم الأسطورية ضد الظلم والطغيان ووقفوا في أرضهم يتحدون الموت والدمار من كل جانب بصوت واحد يرددون إما العيش في أرضنا وبكرامة أو الموت دونها، حتى تحقق لهم النصر بإذن الله ودحر المعتدين.

رحيل الهاشمية اليوم سيترك فراغًا في قلوب أهلها ومحبيها، لكن ما غرسته من حب للمبادئ، سيبقى حيا فينا، ليظل يذكرنا بما قدمته في حياتها وسيرتها العطرة، لقد رحلت جسدا لكنها تركت إرثًا من العلم والمعرفة، ومن الإيمان، ومن الوفاء ولعلنا نعيش كما علمتنا، ثابتين على الحق، سائرين على نهجها في مواجهة تحديات الحياة؛ حيث تظل روحها حاضرة في كل قلب تعلم منها معنى الإيمان والثبات على الحق، فلتكن ذكراها دربًا نحتذي به، ولتبق كلماتها الشجية في آذاننا، وهي تدعونا للتمسك بكل ما هو حق، كما هي ذكرى الحسين فينا حيَّة، ما دام الدم يجري في عروقنا.

رحم الله الهاشمية وأسكنها فسيح جناته، وجعلها في مكانٍ عليٍّ مع الصديقين والشهداء وحسن أولئك رفيقًا، وألهم أهلها الصبر والسلوان، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

تعليق عبر الفيس بوك

الأكثر قراءة