تسمّرت الجموع من الخليج إلى المحيط أمام شاشات التلفاز، وهي ترقُب قبل أيام إعلان الرئيس المصري المنتخب المنتظر..
ودبّ في النفوس الحماس والحيوية عندما علا نشيد مصر الخالد " بلادي بلادي بلادي... لك حبي وفؤادي"..
مضى زمن طويل ونحن في انتظار هذه اللحظة المفصليّة من عمر الزمان، لنكون شهودًا على إعلان أول رئيس منتخب لمصر في ما يعرف بالجمهورية الثانية، بعد مخاض طويل وعسير، بدأ مع اندلاع ثورة الشباب في 25 يناير، وفي أعقاب انتظار عمره قرونًا وقرونًا.
تابعت القلوب كما الأنظار، رئيس المحكمة الدستورية، وهو يعتلي المنصة ليقرأ بيانه المنتظر على نار الثورة الوهّاجة.. انحبست الأنفاس طوال تلك المقدمة التي استطرد فيها القاضي، والشروحات التي أوردها لتهيئة النفوس والعقول لاسم الفائز بين المرشحين مرسي، وشفيق؛ أصابنا الملل وانتابتنا الشكوك، والزمن يمضي بطيئًا كالسلحفاة.. ولكن ها هي لحظة الحقيقة تحين أخيرًا، ليعلن القاضي:" الدكتور محمد مرسي رئيسًا لمصر".
انطلقت زغاريد الفرح، وترقرقت الدموع في مآقي أمهات الشهداء، وفي عيون من واصلوا ليلهم بنهارهم اعتصامًا في ساحات الحرية، سالت دموع الفرح لتغسل كدر النفوس، وأدران الخواطر التي طالما حلمت بيوم كهذا لمصر الكنانة، أرض الأنبياء: يوسف وموسى والسيدة مريم التي جاءت بصغيرها ليشرب بأمان من مياه النيل الخالد.
وانداحت شلالات الفرح لتعم مدن وقرى الجمهورية من أقصاها إلى أقصاها، ليس انتشاءً بفوز مرسي فحسب؛ بل لانتصار الديمقراطية والعدالة.. أيام عشناها لا شيء فيها يوقف الفرح، فقد صبرنا كثيرًا على الحزن والبلاء والفساد والنهب، وآن لنا أن نفرح، ففرح مصر هو لنا جميعًا، وانتصاراتها نصر للعرب والمسلمين، وكذلك كانت انكساراتها.
ها هي معالم مرحلة جديدة تتشكل، وفصل من التاريخ يكتب بالدماء والدموع والعرق، لتنجلي ظلمات الفساد والهوان والإملاءات الخارجية، وتشرق شمس الإرادة الحرة، وتزدهر قيم العدالة، وتسود مبادئ الإنسانية.
نهضت مصر من كبوتها، وكطائر الفينيق نفضت عنها رماد الموت لتبعث من جديد حرة أبيّة.. رأس رمح للعروبة، لا تقبل المهادنة أو أنصاف الحلول أو الهزيمة.
مصر العروبة كانت أكبر من تلك الدائرة التي حاول سجّانوها حبسها فيها، انتفضت مرة في يناير 77، فلم يفهم حكام الغفلة الدرس، لينبروا يكيلون السباب والشتائم لشعب مصر العظيم حتى وصل بهم الأمر إلى تسمية انتفاضته الأولى بانتفاضة الحرامية على حد وصف السادات!! وهي ذات الانتفاضة التي خلدها الشاعر أحمد فؤاد نجم بالقول الشهير: " رجعوا التلامذة ياعم حمزة للجد تاني...".
كان على طواغيت العصر، أن يفهموا أنّ مصر المحروسة ليست مكانًا للنهب وتكديس الثروات وبيع الغاز بأقل من سعر التكلفة، كما فعل سامح فهمي وحسين سالم وأتباعهما.. مصر التاريخ التي انطلق منها صلاح الدين الأيوبي لتحرير القدس وهزيمة الصليبيين في موقعة حطين.. والظاهر بيبرس ليطرد المغول في موقعة عين جالوت، وجمال عبد الناصر في معركة التحرر الوطني العربي.. كانت المحرومة الرحم الذي انبثق عن هؤلاء وغيرهم ممن دخلوا التاريخ ورؤوسهم مرفوعة مزهوين بما قدموه لأمتهم من تضحيات وانتصارات.
مصر العروبة.. ما إن تتراجع قليلا عن المشهد التاريخي حتى تعود إليه بقوة ومن أوسع أبوابه، وعندما تتراجع مصر، يتقهقر عالمنا العربي مثخنًا بجراحه، ومنشغلا بقضاياه المحلية وحروبه الأهلية، ويكون هدفًا للأعداء.. ودونكم خسائر العرب إبّان فترة اضمحلال الدور المركزي المصري: الغزو الإسرائيلي للبنان وحصار بيروت، احتلال العراق، الحرب على غزة وتقسيم السودان... والقائمة تطول.
وقد أدرك وزير الخارجية الأمريكي الثعلب هنري كيسنجر مبكرًا دور مصر، ومكانتها في أمتها، واستوعب أنّ تهميش دور مصر التاريخي هو البوابة الرئيسية لامتداد نفوذ إسرائيل وضمان تفوّقها.. وهي نظرية مدعومة بدراسة التاريخ المعلم الأول في علم السياسة.. فتراجعت مصر شيئًا فشيئًا من دولة كبرى في الستينيات وبداية السبعينيات إلى أداة لتنفيذ الإملاءات الأمريكية والإسرائيليّة من أجل حفنة من الدولارات والمساعدات المذلة. ليصحب ذلك الخراب الاقتصادي الأكبر في تاريخ مصر، وإطلاق سياسة النهب لأزلام النظام ليعبثوا بمقدرات البلد معتمدين على القبضة الأمنيّة، وسجل حافل من التمويه والأكاذيب المنظمة، إضافة إلى تمرير المؤامرات على الشعب المغلوب على أمره، واستمروا في طغيانهم حتى فاجأهم أمر الشعب وهم غافلون.. حيث أطل المارد المصري في 25 يناير في ثورة ظافرة رفع فيها شعارات التغيير والتطهير والمطالبة برحيل الفاسدين.. "إنّه يمهل ولا يهمل"..
وذات المشهد لانتصار الشعوب تجسد أمس في ميدان التحرير، حين فاجأ الرئيس المنتخب المحتشدين في ميدان الثورة؛ في جمعة تسليم السلطة، بأداء اليمين الدستورية أمامهم.. أمام الشعب الذي هو مصدر السلطات، وصاحب الصوت الذي أوصله إلى القصر الرئاسي.. الشعب الذي احتشد في التحرير بالأمس، هم ذات الطلائع التي رابطت في نفس الموقع مع تباشير الثورة، وشرارتها الأولى..
ما إن يغادروه حتى يعودوا إليه مجددًا، وهم أكثر عزمًا، وأمضى تصميمًا على تحقيق أهداف الثورة، وحمايتها من أعدائها، وتحصينها ضد الثورة المضادة لأركان وفلول النظام المخلوع.. فكان النصر حليفهم.
عادوا إلى الميدان مرة، عندما أدركوا أنّ النظام الذي ثاروا ضده باقٍ بمؤسساته ونفوذه وثقافته التي كان عليهم أن يكنسوها إلى مزبلة التاريخ قبل أن يغادروا الميادين والساحات إلى منازلهم، وبعدها تتالت عودتهم إلى الميدان لمتابعة تحقيق أهداف الثورة تباعًا في أيام جمع خالدة ستظل ماثلة في ذاكرة التاريخ.
قد لا نتفق مع الإخوان المسلمين في الكثير من أفكارهم وأطروحاتهم، لكننا نحترم أصول اللعبة الديمقراطية ونقبل بنتائج صناديق الاقتراع، رغم أنّها ليست الحل الأمثل في الديمقراطية ولكنها الأفضل حتى الآن.
ويبقى القول إنّ هناك الكثير من التحديات الكبرى على طاولة الرئيس اليوم، وفي مقدمتها الملف الاقتصادي بعد التخريب المنظم للنظام السابق، وعلى مدى عقود من النهب المنظم وتهريب الأموال للخارج وتدمير ماكينة الإنتاج الوطني لحساب شراكات مشبوهة تقتضي فتح الأسواق على مصراعيها..
يتطلع الشعب المصري اليوم لحياة كريمة تقوم على حفظ الكرامة، وفرص العمل التي تعين على الحياة، وليس هذا بمستحيل فمصر بلد الفرص والإمكانيات على مدى التاريخ، وهي قادرة على جذب الاستثمارات، كما أنّه بمقدور "هبة النيل" أن تصدر القمح للعالم العربي، وتسد احتياجاته الغذائية، بدلا من أن تستورد القمح الأمريكي مقابل تنازلات تتعلق بالسيادة والمصالح المصرية.
تعود مصر اليوم إلى دورها التاريخي بعد أن حُرمت منه قسرًا، وغُيبت عنه عنوةً.. تعود المحروسة وهي متصالحة مع تاريخها وهويتها؛ لتحقق مهمتها المنوطة بها، ولتكون العمق الاستراتيجي لأمّتها، والقلب النابض لعالمها العربي، والذي حينما ينبض بقوة تتدفق الحياة في شراييننا جميعًا.. وعندما تشرق شمس الحرية على مصر يدب الدفء في أوصال الأمّة.