صلالة- ريان البراكة
انطلق في أكتوبر الماضي في محافظة ظفار موسم السردين أو (موسم الضواغي)، وهو صيد السردين بشباك الجريف البحرية محليًا.
وموسم السردين موسم سنوي يُمارس منذ القدم، ولا يزال الكثير من المواطنين يشاركون فيه ويعتمدون عليه في مجموعات يرأسها ربان، وتتكون كل مجموعة من 20 إلى 30 فردًا.
ويعتمد اصطياد أسماك السردين على العمل الجماعي المنظم، فهو عمل شاق ويحتاج إلى المهارة، والدقة، والصبر، والهدوء، حيث إن طريقة صيدها تمر بعدة مراحل متلاحقة: بدءًا من تحديد الموقع ورمي الشباك؛ وسحبها إلى الشاطئ؛ وانتهاءً بتحميلها إلى موقع التجفيف وبيعها كعلفٍ للحيوانات أو تصديرها للمصانع لاستخراج زيتها.
ويُعد موسم “الضواغي” في محافظة ظفار من التقاليد البحرية العريقة، التي تعكس ارتباط السكان بالبحر كمصدر للرزق والحياة، ويتميز هذا الموسم بالاستعدادات الدقيقة والعمل الجماعي، بقيادة ربان خبير بأماكن تجمع أسراب السردين.
وقال الربان مدين بشير البراكة: "قبل بدء موسم الضواغي، يُخصص الصيادون وقتًا لتجهيز معداتهم، حيث يعملون على جمع الأدوات اللازمة وإصلاح شباك الصيد المعروفة بـالجريف (الضاغية)، في عملية تُسمى (اللكادة)، (وهي خياطة شباك الصيد)، ومع انطلاق الموسم، يبدأ الصيادون يومهم في الصباح الباكر، حيث يجتمعون في موقع متفق عليه على شاطئ البحر، بانتظار إشارة قائد المجموعة، وهو الربان، والذي لديه خبرة واسعة بأماكن تجمع أسراب السردين، لذلك يكون على متن قارب يتعقب أسراب أسماك السردين، ويتولى الربان توجيه الصيادين، ويقودهم في عملية استدراج الأسماك إلى الفخ، الذي تم إعداده بعناية لضمان صيدٍ ناجحٍ ومثمر".
ويمثل صيد السردين في محافظة ظفار جانبًا مهمًا من التراث البحري، حيث تطورت أساليبه وأدواته بشكل ملحوظ على مر الزمن. في الماضي، إذ كان الصيد يعتمد على وسائل بدائية وجهد بدني كبير باستخدام الحبال اليدوية وقوارب التجديف، بينما أصبحت العملية اليوم أكثر كفاءة بفضل التقنيات الحديثة مثل الشباك المتطورة والمحركات الآلية. ورغم هذه التحسينات، يواجه الصيادون تحديات مستمرة تتعلق بظروف المحصول وتأثير العوامل البيئية، ما يجعل هذه الحرفة مزيجًا من الخبرة والصبر والتأقلم مع التغيرات.
واكد الربان وليد البلوشي: "يوجد اختلافات كبيرة وشاسعة بين طريقه صيد سمك السردين بين الماضي والحاضر، حيث انه بالماضي في زمن الأجداد كانوا يستخدمون الحبال (السيفية) لمحاصرة اسماك السردين او ما يشير اليه الصيادين (العومة) داخل (الجريف)، الذي تدخل اليه اسماك السردين ليتم محاصرتها. بينما الآن توجد شباك يتم استخدامها لمحاصرة (العومة). ايضاً كانت عمليه صيد السردين بالماضي تحتاج إلى قوه بدنية عالية حيث انه لا يوجد محركات للقوارب والتي كانت تسمى بالماضي (بالسنبوق) أو القارب. وكان اجدادنا يقومون بالتجديف بأيديهم وصولا إلى الشاطئ، ويتم سحب الحبال و الشباك المحملة بأسماك السردين في الماضي عن طريق الإبل. اماً الآن فأصبح بإمكان الضواغي استخدام سيارات الدفع الرباعي لإخراج الشباك من البحر.
وأوضح البلوشي: "محصول السردين يختلف من عام إلى آخر، إذ لا يمكن التنبؤ بثباته أو كميته بشكل دقيق، حيث يتأثر بعدة عوامل، منها الظروف البيئية والمناخية التي تلعب دورًا رئيسيًا في تحديد وفرة الأسماك، ومحصول السنة الماضية كان أفضل مقارنة بمحصول هذا العام، حيث شهد الصيادون في الموسم السابق كميات أكبر من الأسماك". ومع ذلك، عبّر البلوشي عن رضاه بالموسم الحالي، واصفًا إياه "بأنه جميل ورائع بفضل الجهود المبذولة من الصيادين، على الرغم من أن المحصول كان أقل مقارنة بالعام الماضي". وأكد أن العمل في مثل هذه الظروف يتطلب صبرًا ومثابرة، متمنيًا أن تتحسن الظروف في المواسم القادمة لتحقيق صيد أفضل وأكثر وفرة".
ويمثل صيد سمك السردين في محافظة ظفار أحد أهم الموارد البحرية، التي يعتمد عليها السكان كمصدر رزق أساسي لدعم معيشتهم وأسرهم، مما يعكس الأهمية الاقتصادية والاجتماعية الكبيرة لهذا المورد. ويُعد موسم صيد السردين، الممتد من أكتوبر حتى أبريل، من أبرز المواسم البحرية، التي ينتظرها الصيادون بفارغ الصبر؛ حيث يخرجون بأدواتهم التقليدية والحديثة، لتحقيق صيد وفير يعزز استقرارهم الاقتصادي، ويساعدهم على مواجهة تحديات الحياة طوال العام. بذلك، يُبرز هذا الموسم الترابط الوثيق بين الإنسان والبحر في ظفار، ودوره كركيزة أساسية للحياة في المنطقة.
وأشارعبدالله غواص رئيس قسم الموارد السمكية بدائرة الثروة السمكية في محافظة ظفار، إلى أن موسم صيد السردين يُعزز الجانب الاقتصادي والاجتماعي في ظفار، حيث تستفيد منه شريحة واسعة من الصيادين، بمن فيهم الباحثون عن عمل، كونه يمثل فرصة حقيقية لتأمين مصدر دخل لهم. كما تعم الفائدة أصحاب سيارات النقل وملاك الثروة الحيوانية الذين يعتمدون على السردين لتغذية مواشيهم، مضيفا أن صادرات السردين تحتل المرتبة الأولى ضمن إجمالي الصادرات السمكية للمحافظة، مما يرسّخ مكانة ظفار كوجهة اقتصادية مهمة في قطاع الصيد البحري ويُدعم الاقتصاد المحلي من خلال عمليات البيع في الأسواق المحلية والتصدير إلى الدول المجاورة".
ومن جانب آخر، يوضح الربان مدين بشير البراكة أن موسم صيد السردين يتجاوز كونه مجرد نشاط لتأمين الغذاء، إذ يحمل أهمية اقتصادية كبيرة للمجتمع المحلي، حيث " يُجفف السردين ليصبح علفًا غنيًا بالبروتين الطبيعي الذي يُستخدم لتغذية الثروة الحيوانية، كما يتم استخدامه كسماد طبيعي يُحسّن من جودة التربة ويسهم في نمو المحاصيل الزراعية، مبينا: "إلى جانب ذلك، يُنقل جزء كبير من محصول السردين إلى المصانع في المنطقة الصناعية بريسوت، حيث يتم طحنه لاستخراج زيوته عالية القيمة. كما يُعتبر السردين المورد الأساسي للمصانع السمكية التي تعمل في التغليف والتعليب، مما يُسهم بشكل مباشر في تعزيز التنوع الاقتصادي وتنويع مصادر الدخل في المحافظة".
وتلعب وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه، ممثلة بدائرة الثروة السمكية في محافظة ظفار، دورًا حيويًا في ضمان استدامة صيد أسماك السردين، باعتبارها موردًا اقتصاديًا مهمًا للمحافظة، وذلك من خلال تطبيق القوانين وتنظيم استخدام معدات الصيد، وتنفيذ حملات توعوية وإرشادية للصيادين حول أساليب الصيد المستدام، تسعى الدائرة إلى الحفاظ على هذه الثروة البحرية للأجيال القادمة.
وأكد عبدالله غواص: "من أبرز جهود دائرة الثروة السمكية بالمديرية العامة للثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه لضمان استدامة صيد السردين بمحافظة ظفار هي تنمية وإدارة مصائد أسماك السطح الصغيرة، والتي من أبرزها وأهمها أسماك السردين، وذلك من خلال العمل على تنفيذ وتطبيق القوانين والتشريعات الصادرة من وزارة الثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه التي تنظم عمليات صيد السردين، حيث صدرت لائحة لتنظيم استخدام الشباك الشاطئية للصيد (الضاغية) التي تستخدم لصيد السردين، متضمنة أنواع معدات الصيد المستخدمة ومواصفاتها ومسافات ومواقع الصيد للسردين، ويأتي دور دائرة الثروة السمكية، بالتعاون مع دائرة الرقابة، بتفعيل الدور الرقابي لضمان استدامة السردين. أيضًا يتم توجيه الصيادين حول أساليب الصيد المستدام من خلال القيام بالعديد من البرامج والمحاضرات الإرشادية والتوعية لتثقيف الصيادين بأهمية هذه الثروة والتكاتف مع السلطة المختصة لضمان استدامة السردين، وكذلك القيام بالعديد من الزيارات الميدانية للصيادين لحثهم والتأكد من استخدامهم للأساليب والطرق الصحيحة لصيد السردين، وأيضًا بث الرسائل التوعوية عن طريق الرسائل النصية ووسائل التواصل الاجتماعي لضمان وصولها لأكبر شريحة ممكنة من المجتمع".
ويؤكد الربان مدين البراكة:"صيد أسماك السردين خلال موسم الخريف في محافظة ظفار ليس بالمهمة السهلة، إذ يتسم بالصعوبة ويتطلب الكثير من الحذر بسبب الأمواج العاتية والتيارات البحرية القوية، مما يجعل عمليات الصيد محفوفة بالمخاطر، لذلك لا يقوم الصيادون بصيد أسماك السردين في موسم الخريف وينتظرون حتى انتهائه للبدء في موسم صيد السردين، ومن بين التحديات الإدارية التي يواجهها الصيادون هو الحصول على تراخيص خاصة لكل (ضاغية)، حيث تكون الرخصة مسجلة باسم الشخص الذي تُسمى الضاغية باسمه".
وفي هذا السياق، يبين عبدالله غواص رئيس قسم الموارد السمكية من دائرة الثروة السمكية بالمديرية العامة للثروة الزراعية والسمكية وموارد المياه بمحافظة ظفار، أن الترخيص الذي يصدر من الوزارة لصيادين السردين هو ترخيص الشباك الشاطئية (الضاغية)، ولا يتم إصداره في الولاية الساحلية إلا بعد موافقة لجنة سنن البحر بالولاية وذلك بعد الرجوع إلى الأعراف والسنن من قبل الصيادين بالولاية، مضيفا: "حاليا في محافظة ظفار توجد 5 تراخيص للشباك الشاطئية (الضاغية) بولاية طاقة كونها الولاية الوحيدة بالمحافظة التي وافقت لجنة سنن البحر على إصدار الترخيص بها، ويتم إصداره حاليا يدويا وخلال عام 2025م ستتوفر خدمة طلب إصدار وتجديد التراخيص إلكترونياً عن طريق منصة ثروات التابعة للوزارة. كذلك يتم صيد السردين من قبل بعض الصيادين بإستخدام شباك صغيرة تسمى (بالغديف)ولا يوجد لها ترخيص من قبل الوزارة ولا تعتبر مخالفة لقوانين الصيد".
إن موسم الضواغي ليس فقط موسم لصيد السردين، بل موسم حيوي في أجواء مفعمة بالحماس والأمل، وسط أغاني وأهازيج تقليدية تُعد جزءًا لا يتجزأ من تراثهم البحري. هذه الأغاني، التي ورثوها عن أجدادهم، تخفف من مشقة العمل اليومي، فهي ليست مجرد كلمات، بل وسيلة لشحذ الهمم ورفع معنويات الصيادين أثناء قضاء ساعات طويلة تحت حرارة الشمس، وهم يواجهون تحديات البحر وظروفه المتقلبة.
ويقول الربان مدين البراكة أن من أشهر الأغاني التي يرددونها خلال موسم (الضواغي) عبارة: "الله كريم، الله"، التي تحمل في طياتها إيمانًا عميقًا وثقة بربهم بأنه سيمنحهم الرزق الوفير من خيرات البحر. هذه الأهازيج لا تسهم فقط في إحياء الروح الجماعية بين الصيادين، بل تساعد أيضًا في تعزيز صبرهم وتحملهم، وتحول رحلة الصيد الشاقة إلى تجربة مليئة بالأمل والانسجام. ومن خلال ترديد هذه الأغاني، يربط الصيادون حاضرهم بماضيهم، محافظين على إرثهم الثقافي العريق، الذي يُعد جزءًا من هويتهم البحرية وروح التعاون بينهم.
ويمثل موسم صيد السردين في محافظة ظفار أكثر من مجرد نشاط اقتصادي. فهو جزء أصيل من التراث الثقافي الذي يعكس ارتباط أهل المنطقة بالبحر وموارده. يشكل هذا الموسم تقليدًا متوارثًا يجمع بين الحرفة والصبر، وهو شاهد على مهارات الصيادين وخبرتهم في التعامل مع التحديات البيئية. بالإضافة إلى ذلك، يُعد السردين موردًا اقتصاديًا مستدامًا يساهم في تعزيز الأمن الغذائي المحلي، ويدعم قطاعات متنوعة مثل تربية المواشي، الزراعة، والصناعات السمكية. ومع الاستفادة المثلى من هذا المورد الطبيعي، تسعى محافظة ظفار للحفاظ على استدامة هذه الثروة البحرية وتطويرها، بما يعزز مكانتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية على المدى الطويل.