برمجة الأحياء..الواقع والطموح والممنوع (3)

الأحياء التخليقية.. نماذج واقعية

 

أ.د. حيدر أحمد اللواتي **

ذكرنا في مقالنا السابق أن علوم الأحياء التخليقية تسعى إلى تخليق كائنات حية جديدة، بعضها غير متواجد في الطبيعة. ولتوضيح تأثير الأحياء التخليقية، أعرضُ في هذا المقال بعض المنتجات المُسوَّقة القائمة على العلم الجديد.

هناك عدد من المنتجات المُسوَّقة القائمة على تقنيات حيوية، ويتم فيها استخدام كائنات حية كمصانع لإنتاج مواد معينة، لها تطبيقات عملية، فمن المنتجات المُسوَّقة، هناك البيوبلاستيك والذي تم إنتاجه من خلال عمل تغييرات جينية وهندسة نوع معين من البكتريا لتقوم بإنتاج مواد مصنعة، إذ تقوم بتصنيع مادة polyhydroxybut (PHB) والتي يتم تصنيعها عادة من المشتقات البترولية.

كما قامت شركة DuPont الأمريكية بتصنيع مادة 1,3- propandiol باستخدام بكتريا مصنعة جينيًا؛ حيث تم جمع ودمج الخارطة الجينية لثلاث من الكائنات الدقيقة وتغيير 26 موضعًا فيها، وذلك بهدف تغيير السكر من القمح إلى المادة المذكورة، وتستخدم هذه المادة المذكورة لتصنيع سجاد صديق للبيئة، ومن الواضح أن البكتريا التي تم تصنيعها لإنتاج هذه المادة فريدة من نوعها؛ فهي كائن حي تم تصنيعه في المختبرات وتم إجراء تغييرات كبيرة جدًا في الخارطة الجينية بحيث لا نجد له شبيهًا في الطبيعة على الإطلاق؛ فالمادة التي تنتجها هذه البكتيريا كُنَّا ننتجها من مشتقات النفط.

وفي الصين، تم تخليق كلاب بوليسية مُهندَسة جينيًا؛ حيث تم تغيير جيناتها لتصبح كلابًا تمتلك كتلة مُضاعفة من عضلات قوية، ولذا لديها القدرة على القيام بالمهام القتالية على أكمل وجه. لكن التأثير الأكبر للأحياء التخليقية والذي يسير بخطى متسارعة، نجده في مجال الغذاء؛ فهناك الفِطْر الذي يُقاوم تغير اللون إلى البني؛ إذ من المعروف أن الفطر الأبيض بعدما يتم تقطيعه فإنه يتحول إلى اللون البني، كنتيجة لعمليات الأكسدة، لكن بعض العلماء قاموا بإعادة هندسة الفِطْر بهدف إبطاء عملية تغير اللون إلى البني وذلك لأغراض تجارية.

وسمحت النرويج مُؤخرًا باستخدام نبات الكانولا المُهندَس جينيًا، بحيث إن الزيت المُستخلَص من هذا النبات، يحتوي على كميات كبيرة من مادة "أوميجا 3"، وسوف يتم استخدام هذا الزيت لإطعام أسماك السالمون للحصول على أسماك ذات جودة عالية، وبصورة اقتصادية.

وفي فلوريدا بالولايات المتحدة، جرى تعديل الخارطة الجينية لأصناف من البعوض لمنع نقل الأمراض، وتم إطلاقها على نطاق محدود؛ بغرض إجراء مزيد من الدراسات على الآثار المترتبة على البيئة وعلى الإنسان.

لكن التغيير الأهم بلا شك نراه في مجال زراعة اللحوم وتطويرها في المختبرات، والفكرة التي تقوم عليها هذه البحوث، أن يتم أخذ خلية حية من حيوان حي كالبقرة مثلًا أو الدجاجة، ومن ثم زراعتها في المختبر، بحيث تتحول إلى قطعة لحم تُماثِل لحم البقر أو الدجاج؛ بل يمكن أيضًا زراعة الأسماك بهذه الطريقة لتُنتِج لنا أسماكًا لم تسبح في البحر طيلة حياتها! وقد قطعت هذه الأبحاث شوطًا كبيرًا، وهناك عدد من المنتجات التجارية المُتدَاوَلة في الأسواق والتي تقوم على هذه التقنيات. ففي سنغافورة مثلًا، يتم تسويق مُنتجات لقطع الدجاج التي تم زراعتها مخبريًا، بعدما أخذ خلايا من دجاج حي.

إنَّ محاولة زراعة اللحوم مِخبريًا واستخدامها كبديل للحوم المواشي، واتساع استخدام هذه التقنيات والمنتجات، ربما سيكون لها بعض الآثار؛ فالشركات المُنتِجة لهذه المنتجات تسعى جاهدة إلى تغيير ثقافة المجتمعات، ليس فقط بدفعها لقبول منتجاتها؛ بل بنشر ثقافة وقيم جديدة في المجتمعات، وذلك من خلال تبني أفكار مفادها أن تربية الدواجن والمواشي بهدف الحصول على لحومها يعد "أمرًا غير أخلاقي"، وأن قتل الحيوانات "خُلق سيئ" و"جريمة أخلاقية"- حسب معتقداتهم- وقد تمر مثل هذه الدعاوى على بعض الأفراد في مجتمعاتنا، وربما تنعكس على توجهاتهم الفكرية أيضًا، خاصة وأنه من المتوقع مع تطور التقنية، أن تنخفض بشكل كبير كُلفة إنتاج هذا النوع من اللحوم؛ وذلك لأنها لا تحتاج إلى مساحات واسعة لرعي الحيوانات وتربيتها؛ بل يمكن إنتاجها في مختبرات صغيرة، إضافة إلى أنها محمية من انتشار البكتيريا والفيروسات فيها.

وإذا كانت الأمثلة التي سُقناها حول بعض المنتجات المرتبطة بالأحياء التخليقية والتي جرى تداولها في الأسواق أو سيجري تداولها قريبًا، أثارت بعض الفضول أو القلق لدى القارئ الكريم، فإنَّني أدعوه لقراءة المقال المُقبل، والذي سنعرضُ فيه ما يحدث في مختبرات الأبحاث.. فما خفي أعظم بكثيرٍ!

وللحديث بقية،،،

  • سلسة من المقالات عن تاريخ علوم الحياة وحاضرها وفلسفتها والتقنيات القائمة عليها.

 

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس

الأكثر قراءة