فاطمة اليمانية
"في كل إنسان تعرفه، إنسان لا تعرفه"، مصطفى صادق الرافعي.
*****
عميلنا العزيز...
نود إفادتك بأنّك تجاوزت 100% من باقة البيانات الشهرية... والتي ندرك جيدًا بأنّها لم تمكّنك من تحميل المقاطع الصوتية، أو مقاطع الفيديو... وكذلك من التواصل مع الآخرين!
فنحنُ نراعي عدم رغبتك في التواصل مع أيّ أحد!
أنتَ الآن مخذول... رصيدك صفر! صداقاتك معدومة... نظرتك السيئة لنفسك ازدادت سوءًا منذ عام!
كلبُ الحارة يزدريك... والقطّ البليد الذي كان يتكئ على جدران بيتك المتهالك غادره منذ زمن!
لكنّ علاقتنا بك ما زالت مستمرة:
- أنتَ مشترك لدينا... ونحن لا نخدمك!
- هل من اعتراض؟!
عميلنا العزيز...
نحن نعلم بأنّك لا تهتم بتاريخ ولادتك... ولا شهادة ميلادك بعد اكتشاف حقيقة تزويرها، وإضافة عامين على عمرك الحقيقي؛ لتسرع في اللحاق بركب العمل! وأنْ تخففَ عبءَ الحياة من على كاهل والدك الذي مات فرحًا عند حصولك على وظيفةِ عامل في أكبر شركات المدينة!
فربطَ الجميع بين وفاته، وبين عملك... لكنّهم كتموا انزعاجهم خوفًا من أنْ ترفض العمل؛ ويتم إضافتك إلى قائمة فقراء القرية!
- المهم أنّ يكون لديك هوية، وكيان مزوّر، وملامح مشوّهه!
عزيزنا العميل:
ليلة البارحة حاولت عدم الاستسلام لمشاعر القهر التي اعترتكَ ليلة عيد ميلادك؛ فاتّجهت إلى المسجدِ ولم تخشعَ في صلاتِك! كنتَ تفكر في ديونك الكثيرة... وفي كونك عاطلًا عن العمل! بعد أنْ أحالك المدير لإجازة إجبارية بلا راتب، دون أنْ تفعل جرمًا سوى أنّك لستَ من فصيلته؟!
لذلك لم تَرُق له! لم يتمكن من بلعك، واستيعاب ظروفك المعيشية القاهرة!
فأنت لستَ سوى كائِن دخيل مثير للاستفزاز!
وقام بتصويرك وأنت مصاب في راحةِ يدك بعد سقوط آلة حادّة عليها...
غير آبِهٍ لجهادك في حمل الصناديق البلاستيكية الثقيلة، ورصّها فوق بعضها بعضًا... في مخزن ضيّق معتمٍ خال من الإنارةِ والهواء!
وتأمّلت بأنْ يثني على شجاعتك، وعلى إخلاصك في العمل...
وأنْ يمنحك مبلغًا ماليًا عوضًا عن الإصابة؛ إلّا أنّ أحدهم أرسل لكَ صورة مسيئة كُتِب عليها:
- عامل يدّعي إصابته بنزيف في كفّ راحته اليمنى!
وعندما غلَت الدماء في عروقك، ذهبت غاضبًا، وطالبته بحذف الصورة والتعليق؛ فما كان منه إلّا أن صرخ في وجهك، وطردك أمام الجميع!
فالتويتَ على نفسك باكيًا؛ ليصورك مرّة أخرى، وينشر صورتك، وقد كتب عليها:
- دموع التماسيح!
***
عزيزنا العميل...
أنتَ جزء من حياة تتعامل معك كذرةِ كربون لا قيمة لها؛ فقررت أنْ تكفر بجميع المُسَلَمات، بما أنّك لست أكثر من ذرة كربون!
واعتذرت لزوجتك عن توريطها في الزواج منك... وأخبرتها بأنّ الطبيعة اخترعت الزواج، وبأنّ ما حدث مجرد تضحية للحفاظ على النوع البشري! وقلتَ لها بحرقةٍ مردّدًا مقولة لأحد العلماء التقطتها أذنك ساعة يَأس:
- نحن مستعمرات لجينات تَظلّ فينا لفترة محدودة في الحياة، قبل أنْ نموت، وتنتقل لمستعمرة أخرى!
ثم اعتذَرتَ لها مرّة أخرى عن خديعتها بأنّك تعمل.. وبأنّك تمتلكُ وظيفةً، ودخلا ثابتا... بينما أنتَ مجرد عامل بسيط بالأجرة اليومية!
وقلت لها:
- سأتلاشى في الهواء كشبح! واعتبريني كَكذبةِ إبريل! لا حقيقة لي... دخلتُ حياتك عابثّا وساخرًا! والتمسي لي عذرًا؛ فأنَا وأنتِ ضحيةُ تفكيرٍ سائدٍ خاطئ في هذا المجتمع!
لكن زوجتك لم تفهم لغتك! بل كانت تعتقد بأنّ شيطانًا تقّمص روحك، وهو الآن يتحدث بلسانك!
وبينما كنتَ تدير قصصَ الخلاص الحمقاء في ذهنك! كانت زوجتكَ تستذكرُ أسماءَ الرُقَاة الذين سينقذونك من المسّ الذي أصابك!
عزيزنا العميل...
أُغْلِقت الأبواب في وجهك إلّا بابًا واحدًا ابتسم صاحبه لك، ووعدَك بأنّه سيدعمك، وسيقف إلى جانبك؛ لأنّك أصبحتَ منهم الآن... تتبنّى أفكارهم، ونظرتهم إلى حقيقة الوجود!
وعرضَ عليك الإقامة في منزله؛ لريّ الأشجار وتشذيبها؛ فهي أول خطوة في تقليمِ الأفكار التقليدية التي تشعّبَت في دماغِك منذ الصغر!
وفي المساء كنتَ تشاركه القهوة، والمعرفة... حين جلستَ على كرسي ناءٍ في حضرة علماء الحياة... الذين يمجّدون العلم فقط!
وعندما انغمسوا في الحديث عن قضايا علمية عصيّة الفهم عليك؛ قلَت مدهوشًا:
- سبحان الله!
فحاولوا إفهامك بلطفٍ بأنّ الكون خلقَ نفسه... ومن أساسيات الحقائق العلمية عدم ربطها بوجود خالق! وبعد أن سئموا من إصرارك على ذكر الله، قالوا لك بامتعاضٍ:
- لستَ في مسجد!
فقلت لهم ببراءتك المعهودة:
- سبحان الله!
فألقوا بك إلى الخارج، غير مهتمّين بمصيرك في بلدٍ غريب موحش!
لكنّ الله أرسلَ لك من ينقذك، ويصلُ بكَ إلى برّ الأمان؛ فازداد إيمانُك بالله، وأدركتَ بأنّك كنتَ مريضًا يُجالسُ مرضى!
عزيزنا العميل:
لا شيء بينك وبين السماء إلّا الرغبة في الصعود إليها...
وعندما رفعت يديك داعيّا الله... غمرَ الإيمانُ روحَك، وأحيًا اليقينَ في قلبِك وعقلك!
وعندما تحدثت إلى زوجتك، بشّرتك بأنّها حصلت على راقٍ بالمجان، ومعونة شهرية من أهل الخير، ومحامٍ مرموقٍ على استعدادٍ لرفع قضية على الشركة، وهو على ثقةٍ تامّة بأنّك ستحصل على تعويضٍ ماديّ مُجْزٍ عن:
- إذلالك... وشعورك بالقهر والظلم... وتعطيل مصالحك!
فقلتَ ساخرًا حين تذكّرتَ تاريخَ ميلادك:
- وتعويضٍ آخر عن ضريبة ولادتي!