مشاهد الموت وأطفال غزة

 

محمد بن رامس الرواس

لم أحتر كثيرًا عندما بدأت أكتب هذه المقالة، فمنذ أن بدأت أتابع الأحداث التي جرت في غزة بعد السابع من أكتوبر 2023، هالَني مستوى الأحداث المؤسفه التي جرت للأطفال والفتيان الصغار تحديدا لأنهم الفئة الأضعف، فآثرت أن أكتب عن تلك الصدمات المريعة التي ألمت بهم وتعرضوا لها جراء ما كان يحدث من قصف وتدمير منازلهم ومشاهدتهم آثار الدمار والقتل من حولهم.

أكتب اليوم عن ذلك الطفل الفلسطيني الذي يمثل شريحة الأطفال في المعاناة، يقول أحد هؤلاء الأطفال: اليوم أصبحت في سن الثانية عشرة من عمري لكن عندما تشاهدني تحسب أنني كهل لأنَّ الأحداث التي عايشتها خلال الأشهر الفائتة تراكمت بداخلي وأوجدت بنفسي كماً كبيراً من تجارب نفسية كلها صدمات ومآسٍ فأرهقتني رغم صغر سني بشكل كبير وأثرت على نفسيتي التي انعكست على وجهي وتصرفاتي ومعاملتي مع الآخرين ومع الأحداث حولي.

لقد كنت قبل عام واحد فقط فتى مثل بقية أطفال العالم لديه أحلام وأصدقاء وألعاب وأسرة يعيش بينها في سعادة وهناء، لكنه الأن أصبح يرقد منهكاً بعد أشهر دامية بأحد مخيمات رفح تراوده كوابيس وأحلام مُزعجة بين الحين والآخر وأرق يجثو على صدره دون انفكاك وكوابيس تأتيني ليلاً بشكل منتظم كان من بينها رؤية صديق عمري الذي كنت لا أفارقه في المدرسة ولا عند لعب الكرة بالحي ولا عند مشاهدة التلفاز فلم نكن نفترق إلا عند النوم.

لقد كنَّا نتشارك أحلامنا وطموحاتنا وتطلعاتنا سويًا، كنت أشاهد في المنام رفيقي يقترب من حافة هاوية ستؤدي به إلى الموت والهلاك وأنا أحاول أن أمسك به ألا يقع، لكنني عندما استيقظ أتذكر الحظات الجميلة التي كنَّا نستمتع بها سويا، فتهدأ نفسي قليلا، لكن عندما أنام ترجع تأثيرات الصدمات الكبرى في حياتي على هيئة أحلام مزعجة مرة أخرى.

أنا هذا الفتى الصغير الذي فقد مُعظم أسرته وجيرانه ممن كانوا حوله والذي تنتابه هذه الصدمات المتواصلة وهي بلا شك قد حدثت لآلاف الأطفال أمثالي بقطاع غزة فشكلت آلاماً عميقة بأنفسهم، وقلوبهم، وأجسامهم، لقد تجمعت بنفسي كافة التحولات الماساوية بدءًا من نزوحي من مدينة غزة التي كنت أسكنها بعد أن تم قصف منزلنا واستشهاد جميع أفراد أسرتي الصغيرة وجيراني ثم نزوحي إلى مدارس الأنروا بوسط القطاع ثم قصف المدرسة التي لجأنا إليها مع مئات الأطفال والأسر، والآن أصبحنا في أحد مخيمات رفح لا نعلم ماذ يحمل لنا الغد من أخبار.

إن كل خطوة كان يخطوها هذا الطفل كانت معها حكاية تتعمق بداخله فيطرح بينه وبين نفسه الكثير من الأسئلة التي لا يجد لها إجابات في مسألة التقلبات التي حدثت وتحدث له حتى هذه اللحظات التي أدون بها هذه الخاطرة.

قد تبدو الصورة مرعبة ومؤلمة لمثل هذا الفتى الصغير وأمثاله لكن في المقابل هناك شعب بأكمله ينتفض رويدًا رويدًا بإذن الله ليقول للعالم إنني هنا أريد أن استردَّ أرضي وحريتي وإن كان الثمن باهظاً ومؤلماً، قد تبدو الصورة قاتمة بمشاهدها، البيوت التي قصفت والأسر المنكوبه، والنازحون والقتلى والمرضى مناظر شنيعة، قصف، وإجرام، وإبادة لكن هذه المأساة التي تعرض لها الشعب الفلسطيني بكافة مكوناته خاصة الأطفال والفتيان الصغار منهم هي بمثابة ولادة جديدة لشعب يريد الانفصال، الانفصال التام عن الذل والهوان ليكون حرا يصنع قراره بنفسه.

لا لتخيلات الموت بعد الآن قالها الفتي الصغير لنفسه، نعم إنه انفصال تأثرت به كافة مكونات المجتمع الغزاوي ودفعوا ثمنه أنفسهم، وشتات أفكارهم، وحزن مشاعرهم، كبيرهم.وصغيرهم من أجل أن تتبلور وتتشكل صورة جديدة لوضع جديد في فلسطين القادمة بحول الله تعالى وقوته.