سلطان بن محمد القاسمي
هل تساءلت يومًا، وسط الزحام والأشخاص المحيطين بك، لماذا تشعر بوحدة خفية؟ ربما حققت نجاحات لافتة، لكنك لا تزال تشعر بأن شيئًا ما مفقود، وكأن إنجازاتك لا تملأ الفراغ الذي بداخلك. قد يبدو السبب أعمق من مجرد الوصول إلى الأهداف؛ فالأوقات التي نظن فيها أننا نحمي مصالحنا ونعزز ذاتنا قد تكون هي ذاتها التي تسرق منَّا الراحة النفسية. وفي عالم نميل فيه إلى التركيز المفرط على أنفسنا، نجد أن العلاقات الإنسانية الحقيقية تتلاشى ببطء دون أن نُدرك ذلك.
ومن هنا، نصل إلى هذه الفكرة الجوهرية في سلسلة "وسع عقلك": السلام الداخلي لا يتحقق إلا عندما نتخلى عن الأنانية ونتبنى الإيثار. قد يبدو التخلي عنها أمرًا بسيطًا، لكنه في الواقع يتطلب جهدًا ووعيًا عميقًا. فالحياة ليست ساحة نتصارع فيها على المكاسب الشخصية؛ بل هي ميدان نمنح فيه الحب والعطاء، لنجد أن ما نقدمه يعود إلينا بشكل أعظم، دون أن نطلب المُقابل.
ولعلنا إن تدبرنا حديث النبي صلى الله عليه وسلم: "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"، ندرك أن هذا التوجيه ليس مجرد نصيحة عابرة؛ بل منهج حياة يرتقي بنا فوق الأنانية ويجعلنا نتصل بروح من حولنا. فأن تحب للآخرين ما تحب لنفسك يعني أن تفتح قلبك وتمنحهم الدعم والتقدير الذي كنت تتمنى أن يُقدم لك. هذا النوع من الحب هو الذي يزرع السلام في قلوبنا ويمنحنا الراحة التي نبحث عنها.
وعلى مر التاريخ، نجد شخصيات عظيمة أظهرت الإيثار في أسمى صوره. ومن أبرز هذه الشخصيات الصحابي الجليل أبوبكر الصديق رضي الله عنه، الذي قدم كل ماله في سبيل الله دون انتظار المقابل. فعندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم أبابكر: "ماذا تركت لأهلك؟"، أجابه أبو بكر: "تركت لهم الله ورسوله." هذا الإيثار العظيم يجسد الثقة العميقة بالله والتسليم الكامل لحكمه. إن مثل هذه المواقف التاريخية تلهمنا في حياتنا المعاصرة وتذكرنا بأنَّ الإيثار ليس مجرد عمل عابر؛ بل هو جوهر حياة طاهرة ومتفانية لله وللآخرين.
وفيما يخص الحياة العملية، نجد أن الأنانية تتسلل بسهولة إلى النفوس، خصوصًا في بيئة العمل؛ حيث يسعى البعض إلى تحقيق النجاح الفردي بأي ثمن، حتى لو كان ذلك على حساب الآخرين. هذا السلوك لا يترك سوى جو من التوتر والعداوة. وعلى النقيض، الشخص الذي يختار دعم الآخرين وتقديم العون يعزز من روح التعاون ويجعل العمل أكثر فاعلية. على سبيل المثال، تخيل موظفًا يُشارك زملاءه في نجاحاته ويساعدهم دون تردد. هذا الشخص يترك أثرًا طيبًا في قلوب زملائه ويحظى بالاحترام، لأنه يفهم أن النجاح الجماعي ينعكس على الجميع، بينما الأنانية تفرق القلوب وتقلل من قيمة العمل المشترك.
لكن الأمثلة الواقعية لهذا السلوك لا تقتصر على العمل. خذ مثلًا القصة الشهيرة لرائد الأعمال الذي قرر أن يشارك جزءًا من أرباح شركته مع موظفيه. في البداية، شعر البعض بالاستغراب، لكنه أوضح أن نجاح الشركة جاء بفضل جهود الجميع. وبعد مرور الوقت، ازداد ولاء الموظفين وتحسنت إنتاجيتهم بشكل ملحوظ، مما عاد بالفائدة على الشركة بأكملها. الإيثار في هذا المثال لم يكن مجرد كرم؛ بل كان استثمارًا في الثقة وبناء بيئة عمل صحية ومستدامة.
وفي العلاقات الشخصية، نجد أن الأنانية قد تظهر في التفاصيل الصغيرة للحياة اليومية. فكم من مرة نجد أنفسنا نفضل راحتنا الشخصية على مراعاة الآخرين؟ تخيل مثلًا شريكًا يفضل قضاء الوقت بمفرده أو تنفيذ قراراته دون مراعاة رأي الطرف الآخر. بمرور الوقت، تؤدي هذه الأنانية إلى تآكل الثقة والمحبة في العلاقة. لكن إذا اخترنا أن نترك الأنانية جانبًا ونعمل على تلبية احتياجات الآخرين قبل أنفسنا، ستتغير النتيجة.
لنأخذ مثالًا من الحياة الأسرية: الأب أو الأم اللذان يضعان احتياجات أبنائهما قبل احتياجاتهما الشخصية سيشعران بالرضا والفرح عندما يريان أبناءهم ينمون وينجحون. إن العطاء داخل الأسرة لا يُعتبر خسارة؛ بل هو استثمار طويل الأمد في بناء روابط قوية، وهذا بدوره يزرع في الأبناء قيمة الإيثار منذ الصغر.
ومن جانب آخر، نجد أن الأنانية لا تؤثر فقط على علاقاتنا بالآخرين؛ بل تمتد لتعيق اتصالنا العميق بالله. فالأناني مشغول بنفسه، يضع احتياجاته فوق القيم التي تربطه بخالقه. وفي المقابل، الشخص الذي يمارس الإيثار يعيش في حالة من التسليم لله، ويعتمد في حياته على العطاء دون انتظار المقابل.
وهنا يظهر بُعد روحاني عظيم في مفهوم الإيثار؛ حيث يصبح الإيثار ليس فقط مبدأ أخلاقيًا بل تعبيرًا عن حب الله والثقة برزقه. يقول الله تعالى في سورة الأنفال: "وَمَا تُنفِقُوا مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لَا تُظْلَمُونَ" (الأنفال: 60). هذه الآية توضح أن كل ما نقدمه من خير، سواء كان مالًا أو جهدًا أو وقتًا، سيعود إلينا بالخير والبركة. وهذا ما يجعل الإيثار طريقًا ليس فقط للتقرب إلى الله؛ بل لتحصيل البركات في الدنيا والآخرة.
كذلك الإيثار يُظهر التسليم الكامل لإرادة الله، واليقين بأنه مهما قدمت من خير، فإن الله سيرده إليك بأفضل منه في الدنيا والآخرة. يقول الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: "الإيثار أعلى مراتب الإيمان". هذا القول يعكس أن الإيثار ليس مجرد عمل عابر أو قرار مؤقت؛ بل هو مبدأ راسخ يعزز صلة الإنسان بالله. فكلما تصرف الإنسان بكرم وعطاء، شعر بالقرب من الله، لأن الله يحب العطاء ويجازي عليه.
كما إن التخلص من الحسد جزء لا يتجزأ من هذه الرحلة نحو الإيثار. فالشخص الذي يغار من نجاح الآخرين يعيش في توتر دائم، يعكر صفو حياته ولا يسمح له بالاستمتاع بما لديه. كذلك، الحسد يجعل الإنسان سجينًا للمقارنة؛ حيث يقيس سعادته بنجاح غيره. لكن عندما نتحرر من هذا الشعور ونتبنى الإيثار، نكتشف أن السعادة تكمن في تقديم الدعم والاحتفاء بنجاح الآخرين. إن فرحتك بنجاح شخص آخر ليست تقليلًا من نجاحك؛ بل تعبير عن قوة داخلية وشعور بالسلام الحقيقي.
وفي العلاقات العاطفية والأسرية، نجد أن الإيثار هو الصمغ الذي يُلحم القلوب معًا. ففي لحظات الغضب أو الانفعال، قد يكون الصمت أو العطاء هو الرد الأنسب بدلًا من الأنانية. كما إن الإيثار لا يقتصر على العطاء المادي فقط؛ بل يشمل تقديم الوقت، التفهم، أو حتى الصبر على مواقف صعبة. وعندما نختار أن نتخلى عن الأنانية في اللحظات الصعبة، نسمح لعلاقاتنا بالتماسك والنمو. إن الإيثار هو الأداة التي تجعل كل علاقة أعمق وأقوى، وتجعل كل تواصل مبنيًا على الاحترام المتبادل.
وعندما يتعلق الأمر باتخاذ القرارات في حياتنا اليومية، فإن الصمت والتفكير في تأثير هذه القرارات على الآخرين قد يكون درسًا مهمًا في الإيثار. فاتخاذ قرار مبني على احتياجاتك وحدك قد يضر بالآخرين، لكن التفكير العميق والتريث يسمح للعقل بالتحكم، وليس الغريزة. وهذا هو جوهر الصبر والإيثار في التعامل مع تحديات الحياة. فالتفكير قبل الفعل، ومراعاة مشاعر الآخرين، يجعل حياتنا أكثر سلاسة ويعزز من الروابط الإنسانية.
الله سبحانه وتعالى يقول: "وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى" (المائدة: 2). هذا التوجيه الإلهي يشير إلى أن التعاون والإيثار هما الطريق لتحقيق رضا الله وتكوين مجتمع قوي ومتماسك. ترك الأنانية ليس فقط ضروريًا لتطوير العلاقات الشخصية والمهنية؛ بل هو أيضًا سلوك روحاني عميق يفتح أبواب الرضا والسلام الداخلي.
وفي ختام رحلتنا مع الإيثار، ندرك أن الإيثار ليس مجرد سلوك أو تصرف عابر؛ بل هو فلسفة حياة تمنحنا شعورًا دائمًا بالراحة والارتياح. وعندما نحب للآخرين ما نحب لأنفسنا، نتخلص من قيود الأنانية التي تفرض علينا حياة مليئة بالعزلة. اترك الأنانية ووسع قلبك للعطاء، وسترى أن العالم من حولك يبدأ بالتفاعل معك بشكل مختلف. ستفتح أمامك أبواب لم تكن تتخيلها، وستتدفق الحياة عليك بالخيرات من حيث لا تحتسب.
لذا.. دعونا نتعلم كيف نوسع عقولنا وقلوبنا معًا. فترك الأنانية وراءنا يعني العيش بحب وتفاؤل، والتفاعل مع الآخرين بروح ملؤها التقدير والإيثار.
وسِّع عقلك وشارك الخير مع الآخرين، لتصبح حياتك أكثر إشباعًا وسعادة.