د. عبدالله باحجاج
ارتفاع نسبة الطلاق مُشكلة خليجية عامة، بمعنى أنَّ دول مجلس التَّعاون الستة تعيش المشكلة ذاتها مع التفاوت، وقد بلغت مبلغًا مُقلقًا من تداعياتها، في ضوء تلاقي مجموعة مشاكل داخلية وإكراهات جيوسياسية، علاوة على أنَّ بعض الدول الخليجية وصلت نسبة الطلاق فيها إلى نصف نسبة الزواج سنويًا، والدول الأخرى ورغم تفاوتها إلّا أن أغلبها بين الثلث وأقل بقليل أو أكثر بقليل.
هكذا نطرح قضية ارتفاع نسبة الطلاق في المجتمع، في الإطار الخليجي العام، وبلادنا جزء منه، والخطورة المُخيفة أنه تقاطع مع مشكلة الطلاق مشاكل أخرى مثل ارتفاع أعداد غير المتزوجات وانخفاض نسبة المواليد وغيرها من المؤشرات الديموغرافية، وبالتالي، فإنَّ أي عاصمة خليجية- دون استثناء- يتحتَّم عليها دراسة هذه المشاكل من الزوايا التالية:
1- انعكاساتها الاجتماعية والسياسية والأمنية على دول مجلس التعاون الخليجي في ظل فتح الأبواب الاستثمارية لدول المجلس الخليجي الستة لديموغرافيات مرتبطة بمصالح جيوسياسية وآيديولوجية.
2- دور التحوُّلات الجديدة التي تتبناها كل دولة خلال الأربع سنوات الأخيرة في ارتفاع تلك المشاكل.
3- تأثير التفكُّك الاجتماعي الناجم عن تلكم المشاكل في حقبتيْ حروب الجيل الرابع المقبلة، والتنظيمات الإرهابية، وبروز مفهوم جديد مُرعب وهو "التطرُّف العنيف"، الذي قد يكون مصدره فردياً أو جماعة غير مُسيَّسة وخارج سياقات التنظيمات الإرهابية، بسبب الإحباط الاجتماعي الذي تُنتِجُه التحوُّلات وخطط التطوير الحديثة.
ما يستوجب لفت الانتباه هنا، أن الإحباط الاجتماعي قد أنتج بدوره في القارة الأوروبية اليمين المُتطرِّف، نتيجة سياسات الدول الأوروبية التي أنتجت بدورها مشاكل بنيوية كالبطالة، والفقر، وتآكل الطبقة المتوسطة، والانفتاح الفكري والثقافي دون ضوابط. فهل الدول الخليجية تسير دون وعي نحو هذه المآلات على خطى الدول الأوروبية؟
ومهما كانت الأسباب التقليدية التي تؤدي إلى الطلاق إلّا أن ارتفاعها الآن يرجع الى التحوُّلات ومسارات التطوير والتحديث الخليجية الجديدة، على اعتبار أن أي تحول أو تطور أو تحديث، تتبعه تغييرات سلبية تهز البنيات الاجتماعية حسب قوتها، وهذا من المُسلَّم به، إلّا إذا كانت الدول واعية بحجم السلبية مُسبقًا، وتعمل على الحد من تأثيراتها حتى لا تُنتج مشاكل بنيوية تمس مكونها الديموغرافي- ماهيةً وعددًا- ولم نرصد معالجة واعية وشاملة بالمشاكل الناجمة عن تحولاتها الشاملة. والمثير أن التحولات تتم بصورة راديكالية في سرعة زمنية فائقة، دون أي دراسات لانعكاساتها الاجتماعية والاقتصادية والأمنية؛ مما يترتب عليها بروز مثل تلكم المشاكل الاجتماعية المُقلِقة.
والذي يُقلقنا هنا بروز ضحايا الطلاق وهم الأبناء، فما مصيرهم بعد فقدان الحاضنة الأسرية؟ وكيف بوضعهم إذا ما صاحبه فقدان الدعم المالي الكافي؟ إنه الضياع، هذا أقل ما يُمكن توصيفه. وكيف إذا ما ربطناها بمسارين هما: انخفاض عدد المواليد، وارتفاع عدد الوافدين الذين وصلت نسبتهم في إحدى الدول الخليجية إلى 90%، بينما تصل نسبتهم في أقل دولة خليجية 40%. ولن تتوقف هذه النسب عند هذه المستويات؛ بل هي في تصاعد سنويًا، وهنا نكون في آفاق إغراق ديموغرافي مُخيف، ومآلات تداعيات هذا الإغراق الخليجي نرصده في المشاهد الثلاثة التالية:
1 - ضحايا الطلاق سيُصبحون أهدافًا سهلة للتنظيمات الإرهابية الجيوسياسية التي تُحيط بالدول الست من كل الجهات، وعصابات المخدرات، ويُصبح معها داخلها مواتٍ لاختراقاتها الجغرافية والفضائية، في ظل قدرة بعضها- مثل "داعش"- على تجنيد الشباب عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وخاصة منصة "إكس" (تويتر سابقًا).
2 - لن يكون أعداء الخليج من دول وجماعات إرهابية في حاجة إلى القوة الخشنة للمساس باستقراره وأمنه، وإنما سيكون من السهولة بمكان تحطيم مناعته الاجتماعية دون إطلاق رصاصة واحدة، وذلك من خلال استغلال الثغرات.
3 - ستبرُز التيارات الفكرية والسياسية الداخلية- القديمة والجديدة- لأن بيئات إحيائها قائمة، وهناك فعلًا ظهور علني على الساحة الخليجية لإحدى القوى القديمة، بعد أن اعتقدنا أنها انصهرت في البنية الاجتماعية، لكنها تقدم نفسها الآن كمتحوِّل مُتعايِش سياسيًا، وقد أصبح لها علاقات دولية تستقوي بها، والآن تُمكِّنها المنطقة من منحها المُمكِّنات على تجديد وجودها الفكري والسياسي.
المشاهد الثلاثة سالفة الذكر هي أبسط الاستشرافات الواقعية التي يُمكن أن يخرج بها الفكر من حجم المشاكل التي تُثير اهتمامنا عبر هذا المقال، ونحاول هنا لفت انتباه صُنَّاع القرار في دول الخليج، لعلمنا بانشغالاتهم في تطوير وتحديث قوتهم العسكرية- أي الخشنة- وصناعة قوتها المالية من الضرائب والرسوم، إذ لن تُمكِّنهُم هذه الانشغالات من توجيه تفكيرهم السياسي لرؤيتها، ومن ثم دراسة خطورة مشاكل ارتفاع نسب الطلاق وتأخر الزواج وانخفاض المواليد، مقابل ازدياد أعداد الوافدين على مستقبل قوتها الناعمة.
ونذكر مُجدَّدًا أن حروب الجيل الرابع ستكون حروبًا تستهدفُ المناعة الاجتماعية لكل دولة، من خلال الشائعات والأخبار المُزيَّفة والحروب السيبيرانية؛ لأن القوة الخشنة سيتم تحييدها في هذه الحروب؛ كون أغلب الدول ستمتلك قوة الردع التقنية العالية. وهنا تساؤل منهجي: هل هناك دولتان إقليميتان في أي بقعة جغرافية لا تملكان الردع النووي؛ سواء كشفت ذلك أم لا؟ وإذا لم تكن جاهزة في هذه اللحظة، فهي ستكون كذلك في أي لحظة عندما تستدعي الظرفيات العاجلة. وتساؤل منهجي آخر: هل هناك دولة الآن لم تستثمر في تطوير تقنية الطائرات المُسيَّرة وفي الحروب السيبيرانية مثلًا؟
وأخيرًا نقول إن القوى الإقليمية والدولية تتجه الآن نحو صناعة التوازن في القوة المُجرَّدة، لذلك على دول المنطقة أن تتماهى مع عمليات تطوير منظوماتها الرباعية بصورة متكاملة، وهذه المنظومات هي: الدفاعية، والأمنية، والاجتماعية، والاقتصادية. وهذا لم يحدث حتى الآن! بدليل بروز تلكم المشاكل البنيوية المُخيفة. وهنا الخطورة التي يستوجب التحذير منها بصوت مرتفع؛ لأننا لا نزال في مرحلة الاستدراك والتصحيح، وإذا تجاوزتها دول المنطقة الخليجية، فلن تنفعها القوة الخشنة إذا ما انهارت جبهتها الداخلية؛ فاعداؤها سيستغلون ثغراتها الداخلية لتعطيل مناعاتها الاجتماعية.