بعد النصر الزائف.. إسرائيل تغرق في مستنقع الاستنزاف

 

د. هيثم مزاحم **

كتب الجنرال السابق في جيش الاحتلال الإسرائيلي يتسحاق بريك مقالة في صحيفة "معاريف" الإسرائيلية، اعتبر فيها أن النجاحات التي حققها الكيان الصهيوني مؤخرًا، وخصوصًا اغتيال الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله ومسؤولين كبار آخرين في حزبه، "هي نجاحات ممتازة ومهمة، لكنها لا تغيّر الواقع المختل الذي نعيشه إن لم تساعد في تحقيق الأهداف التي وضعناها لأنفسنا".

وأضاف بريك أن "مشكلة أغلبية المجتمع والقيادات في إسرائيل أنها تنظر إلى الواقع من ثُقب الباب، ولا يرون إلّا ما يحدث في نقطة معيّنة خلال وقت معيّن، ومن دون أن يروا الصورة الكاملة، أو تكون لهم نظرة بعيدة المدى إلى المستقبل".

وأوضح أن على إسرائيل التصرف بذكاء من أجل الوصول إلى أهدافها المركزية وهي: تحرير الأسرى في أنفاق قطاع غزة، وإعادة النازحين في الشمال والجنوب إلى منازلهم، وترميم الدمار وإعادة الأعمال، وترميم اقتصاد إسرائيل الذي يعيش حالة انهيار، وترميم العلاقات الدولية مع العالم؛ إذ يبدو أن إسرائيل معزولة عن العالم عبر إلغاء الطيران بوتيرة لم نشهدها من قبل، فضلًا عن الحصار الجوي على إسرائيل، والمقاطعة الاقتصادية، والعقوبات على إمدادات الأسلحة إلى جيشها، والقرارات التي يمكن أن تتخذها مستقبلًا محكمة العدل الدولية في لاهاي، والتي قد تصل إلى إخراج إسرائيل من الأمم المتحدة.

ورأى بريك ضرورة وقف حرب الاستنزاف التي تدمر كل قطعة جيدة لدى الكيان الصهيوني، والوصول إلى اتفاقيات بوساطة الولايات المتحدة ودول أُخرى، "إذ آن الأوان لأن يعترف نتنياهو والمجموعة المحيطة به بأن شعار "تفكيك حركة حماس كلّيًا" و"إخضاع حزب الله" ليست أهدافًا واقعية. فإن محاولة تحقيق هذه الأهداف تدفعه وتدفع حكومته إلى اتخاذ قرارات غير عقلانية، وإلى استمرار حرب الاستنزاف التي تضر بإسرائيل كثيرًا. وتحت غطاء هذه الأهداف، يمكن ألاّ نستطيع تحقيق الأهداف المهمة فعلًا، ولا يمكن تحقيقها إن لم يسيطر نتنياهو ومجموعته على ذاتهم، فسلوكهم يمكن أن يقودنا إلى انهيار دولة إسرائيل".

ويوصي بريك بأن على إسرائيل المضي إلى بناء حِلف دفاعي إقليمي مع الولايات المتحدة والدول العربية المعتدلة، كمعسكر واحد في مقابل "محور الشر الجديد"؛ روسيا، والصين، وإيران، بحسب تعبيره.

وهو يرى أن "الآن هو الوقت الملائم لترتيب أمورنا في مقابل "حماس" و"حزب الله" بوساطة أميركية وشروط ملائمة من جانبنا بعد اغتيال نصر الله والمحيطين به". وعبّر عن معارضته دخول القوات البرّية الإسرائيلية إلى جنوب لبنان حتى نهر الليطاني، لأن دخولًا كهذا لن ينجح، لأسباب كثيرة، مشيرًا إلى ارتفاع عدد القتلى والجرحى في العمليات البرية والأخطاء العسكرية وعدم التزام الجنود بالأوامر.

وقال بريك "علينا أن نفهم أن احتلال مناطق أيضًا في جنوب لبنان لن يؤدي إلى التحول الذي نريده لوقف حرب الاستنزاف، ففي نهاية المطاف، سيُخرج الجيش الإسرائيلي قواته، وسيستمر حزب الله في إطلاق الصواريخ والقذائف على إسرائيل، وعلى الشمال من مناطق أبعد من المناطق التي سنسيطر عليها. وحتى لو أراد الجيش البقاء في المناطق التي احتلها، فإنه لا يستطيع القيام بذلك، لأنه لا يملك فائضًا من القوات البرّية.. وسيكون على الجيش إخلاء المناطق التي احتلها، كما حدث في قطاع غزة في مقابل "حماس"، وسيسيطر مقاتلو حزب الله على المناطق".

وبشأن الرد على إطلاق إيران 181 صاروخًا في اتجاه إسرائيل في الأول من أكتوبر الجاري، يرى بريك أن الرد الإسرائيلي يجب أن يكون محدودًا، وبالتنسيق مع الولايات المتحدة، كي لا يجر ردودًا إيرانية أُخرى. إذ يمكن أن تستدعي إسرائيل ردًا إيرانيًا يتم خلاله إطلاق مئات الصواريخ في وقت واحد على المراكز السكنية: منطقة المركز، وخليج حيفا، والكريوت، وبئر السبع، والقدس، وسيكون الهدم والدمار الذي سيلحق بإسرائيل كارثيًا. وحتى لو قامت إسرائيل بردّ مضاعف، وهدمت آبار النفط الإيرانية، فإن الإيرانيين سيستطيعون النجاة. لكن مَن يضمن نجاة الإسرائيليين من الضربة المؤلمة التي سيتلقونها؟

ويخلص بريك إلى أن نتنياهو غير جاهز للذهاب في ترتيبات واتفاقيات بين إسرائيل وحزب الله و"حماس" حتى الآن، إنما يريد الاستمرار في القتال من أجل المحافظة على حكمه، وما زال يوجه نظره إلى هدف "تفكيك حماس كليًا"، و"إخضاع حزب الله"، وإسقاط النظام الإيراني. وهذا ما يدل على أننا نتعامل مع رئيس حكومة ما زال يعيش نشوة ما بعد اغتيال نصر الله؛ فهو يتجاهل كليًا الواقع حوله، فبدلًا من الذهاب في الطريق الصحيح والوصول إلى ترتيبات بوساطة الولايات المتحدة بعد نجاحات سلاح الجو في مقابل حزب الله، فهو يستمر في حرب الاستنزاف التي يمكن أن تقودنا إلى حرب إقليمية متعددة الجبهات، ويُلحق ضررًا حرجًا بدولة إسرائيل. وحتى إذا لم تندلع حرب إقليمية متعددة الجبهات في هذه المرحلة، فإن حرب الاستنزاف مستمرة منذ عام، وستفكك الدولة في جميع المجالات التي ذكرتها سابقًا"، يتابع بريك.

ويحذر بريك من أنه يمكن أن نجد أنفسنا بعد بضع سنوات أمام إيران نووية، وأننا نشهد عداء متصاعدًا في مصر تُجاه إسرائيل، وقد بَنَت مصر الجيش الأكبر والأقوى في الشرق الأوسط، وجميع تجهيزات الجيش المصري موجهة نحو إسرائيل. كما سيتوجب على إسرائيل أن تكون لديها قوات على الحدود مع الأردن، يبلغ طولها نحو 400 كيلومتر. كما ستتضطر إسرائيل نشر قوات على الحدود المصرية. كما أن السوريين يرممون جيشهم بمساعدة روسيا، وبعد بضعة أعوام، سيكونون تهديدًا حقيقيًا يستوجب التعامل معه من جانب الجيش الإسرائيلي. إذن، يتوجب علينا أن ننشر قوات على حدود قطاع غزة، والحدود في لبنان، والضفة الغربية، وحرسًا قوميًا داخل دولة إسرائيل للدفاع في مقابل المتطرفين المخلين بالنظام.

وينبه الجنرال المتقاعد من أن كمية الصواريخ والقذائف والمسيّرات التي لدى إيران وحلفائها تتزايد بمساعدة موارد كبيرة يحصلون عليها من الصين وروسيا. وفي مقابل هذا كله، لدى إسرائيل اليوم سلاح برّية صغير لا يستطيع الصمود كما يجب، ولا حتى في جبهة واحدة. لذلك تحتاج إسرائيل فورًا إلى شراء أدوات قتالية جديدة ملائمة لحروب المستقبل، وإقامة سلاح صواريخ، وصناعة ليزر قوي للهجوم والدفاع من الصواريخ الباليستية، وشراء رشاشات بفوهتين، ومسيّرات، وغيرها. وإن لم تكن إسرائيل جاهزة في السنوات القريبة، فإنها لن تستطيع الصمود في مقابل كل التهديدات التي ستفرضها علينا الدول العربية بقوة، والتي ستكون أضعاف التهديد الحالي.

ويختم بريك مقالته بالقول إن "إحدى مشاكل شعب إسرائيل الأكثر صعوبة هي أنه يغرق في النشوة حين ينجح، ولا يصغي إلى المشاكل الصعبة المتوقعة أمامنا على الطريق من أجل التعامل معها، وهذا النهج يتم فيه دفن الرأس بالرمال، ويمنح نتنياهو وغالانت وهرتسي هليفي الدعم اللازم، وهو السبب وراء اليوم الأسود 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، ويمكن أن يكون السبب وراء يوم أكثر سوادًا في المستقبل".

انهيار أسطورة الكيان

أما المحلل العسكري الإسرائيلي البارز عاموس هرئيل فقد كتب في صحيفة هآرتس العبرية مقالة في الذكرى السنوية الأولى لهجوم طوفان الأقصى الذي أسماه "مجزرة مستوطنات غلاف غزة"، وقال إن الحرب التي غرقت فيها إسرائيل، تتوسع من دون أن تلوح لها نهاية في الأفق. ففي غزة، قام الجيش الإسرائيلي مرة أُخرى باجتياح شمال القطاع، وهو يستعد لطرد عشرات الآلاف من السكان الفلسطينيين جنوبًا بهدف زيادة الضغط على قيادة "حماس". أمّا في لبنان، فتقوم فرق قتالية من الألوية بتمشيط القرى والمناطق الحرجية بهدف تدمير مجمعات القتال التابعة لحزب الله. وفي إيران، تهدد إسرائيل بالرد على الهجوم الصاروخي الباليستي الهائل الذي تعرضت له الأسبوع الماضي. 

وأضاف هرئيل: "كانت سنة مروعة، بدأت بفشل ذريع، وهو أكبر إخفاق في تاريخ الدولة"، مشيرًا إلى "سلسلة من النجاحات المذهلة للجيش الإسرائيلي والمجمّع الاستخباراتي الإسرائيلي التي قلبت الموازين في لبنان، وألحقت بحزب الله هزيمة قاسية، وحسّنت مكانة إسرائيل الاستراتيجية في مواجهة إيران وأذرعها". لكنه رأى أن "القصة بعيدة عن نهايتها. ستستمر الحرب  تتعمق في عامها الثاني، وسيؤثر الواقع الإقليمي الجديد والمضطرب في الشرق الأوسط بأكمله في السنوات المقبلة. إذ إن النجاح في مواجهة حزب الله لا يضمن بعد استقرار الوضع الأمني بالشكل الذي يسمح بعودة السكان على طول الحدود مع لبنان إلى منازلهم. أمّا المواجهة المباشرة، الأولى في نوعها، مع إيران، قد تسرّع قرار النظام بشأن المضيّ قدمًا في مشروعه النووي، وتجعله على الأقل دولة على عتبة النووي، بحسب رأيه.

ويؤكد هرئيل أنه في تناقض تام مع ترهات "النصر المؤزر" التي يطلقها نتنياهو، فإن إسرائيل ليست قريبة من حسم الصراع مع أعدائها؛ إذ من المرجح أن تُدار هذه الحرب بشكل متقطع، وبشدة متفاوتة، طوال السنوات المقبلة. 

وهو يخلص إلى أنه لا يمكن للإنجازات العسكرية الإسرائيلية في غزة، وفي لبنان على وجه الخصوص، محو الأثر الرهيب ليوم 7 أكتوبر، الذي سيشعر به، على الأرجح، كل مواطن إسرائيلي هذا الصباح.. إذ انهارت الأسس البديهية للحياة في الكيان في كيبوتسات "غلاف غزة"، وفي سديروت وأوفاكيم. فالمجمع الاستخباراتي الإسرائيلي، الذي تفاخر أعوامًا بقدرته على اختراق أنظمة العدو والتنصت عليها وجمع كميات هائلة من المعلومات، ثبت أنه كان غارقًا في غروره. (إذ تبين لاحقًا، أن خطة هجوم "حماس"، "سور أريحا"، كانت في حوزة الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية لأكثر من عام)، في حين أبقت قيادة المنطقة الجنوبية وفرقة غزة على قوة قتالية ضئيلة بالقرب من السياج، نتيجة الاستخفاف ذاته بالفلسطينيين. أمّا عندما وصل الطوفان على هيئة آلاف المسلحين الذين يتبعهم حشد غاضب من غزة، فقد انهارت المنظومة العسكرية الإسرائيلية خلال دقائق. لقد تم اختراق السياج، واجتاحت أمواج الطوفان المواقع العسكرية الواحد تلو الآخر، يتابع هرئيل.

ويختم هرئيل مقالته بأنه بالرغم من الاجتياح الإسرائيلي لقطاع غزة وتشريد سكانه مرات عدة وتدمير البنى التحتية وقتل أكثر من 40 ألفًا من الفلسطينيين، فلا تزال "حماس" قادرة على الحفاظ على مستوى لا بأس به من الحكم الفعّال في معظم أجزاء القطاع؛ بل يؤكد دخول القوات الإسرائيلية إلى شمال القطاع قبل يومين أن الحرب لم تُحسم بعد. ويشن الجيش الإسرائيلي هجومًا هناك، على أمل أن يدفع هذا الضغط يحيى السنوار إلى العودة إلى المفاوضات بشأن صفقة الأسرى الذين تتخلى عنهم حكومة نتنياهو. لقد ألحق يحيى السنوار أضرارًا أكبر بالإسرائيليين؛ سواء من ناحية انعدام الثقة الواضح الذي نشأ بقدرة السلطات الحكومية على مساعدتهم أو في تأقلُمهم مع تدهور معايير القتال لدى الجيش الإسرائيلي، على خلفية "فظائع مجزرة" الطوفان والحرب المستمرة في غزة، بحسب هرئيل.

هاتان الشهادتان لخبيرين إسرائيليين تؤكدان أن نشوة الانتصار لدى نتنياهو وحكومته لن تدوم طويلًا. فرأينا كيف تعجز قواته عن التقدم لعشرات الأمتار في القرى الحدودية اللبنانية حيث يتصدى لها المقاومون من حزب الله ويلتحمون معها مكبدين إياها عشرات القتلى والجرحى في أسبوع واحد، بينما يستمر حزب الله في إطلاق مئات الصواريخ يوميًا على المستوطنات في الجليل وصولًا إلى المدن في صفد وحيفا وما بعد حيفا، وهو ما يؤكد على استمرار منظومة القيادة والسيطرة لدى حزب الله برغم اغتيال عدد من قادته على رأسهم نصرالله.

وفي خط موازٍ، تواصل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة صمودها الأسطوري بعد عام من العدوان وتكبّد العدو الخسائر في جنوده وضباطه، وتطلق الصواريخ باتجاه مستوطنات غلاف غزة والمناطق القريبة منها.

لقد كانت استراتيجية محور المقاومة تقوم على استنزاف الكيان الإسرائيلي، كجيش ومجتمع واقتصاد، واليوم بمحاولة غزوه البري للبنان وعودته لاجتياح شمال قطاع غزة، فضلًا عن تأهبه لمواجهة مع إيران، ستزيد من استنزافه. وإنَّ غدًا لناظره قريب.

** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية  - لبنان

الأكثر قراءة