سلطان بن محمد القاسمي
في سلسلة "وسع عقلك"، تناولنا أهمية تجاوز الصغائر والتركيز على الحاضر، وتعلمنا أنَّ التسامح والتخلي عن الضغائن يُمكن أن يفتح لنا أبوابًا للسلام الداخلي. واليوم، نواصل هذه الرحلة بفكرة جديدة مكملة، وهي: فن السكوت. وفي الحقيقة، كثيرًا ما نجد في حياتنا اليومية أن الكلمة قد تكون سلاحًا، وأحيانًا الصمت يكون أبلغ من الكلام. كما يقول المثل الشائع: "السكوت من ذهب"، والحكمة القديمة هذه لها عمق كبير يتطلب التأمل.
فلو تأملنا، سنجد أن هناك مواقف قد يكون فيها هذا الخيار أفضل وسيلة للحفاظ على هدوء النفس وتجنب المشاحنات. فالكلمات ليست دائمًا ضرورية، بل أحيانًا يمكن أن تسبب ضررًا أكبر مما قد نتصوره. ولهذا، السكوت هنا لا يعني الخضوع أو القبول، بل يعني التحلي بالحكمة في اختيار الوقت المناسب للكلام. كما يقول الله تعالى في كتابه الكريم: "وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا" (البقرة: 83)، وهذا يدعونا لاختيار كلماتنا بعناية، ولكن في بعض الأحيان يكون الاختيار الأفضل هو الصمت.
لنأخذ مثالًا من الحياة اليومية، كم من مرة وجدنا أنفسنا في مواقف خلافية أو نزاعات؟ ربما كان الحوار يأخذ منحى تصاعديًا، وكل كلمة تضيف زيتًا على النار. هنا تظهر أهمية السكوت. فالصمت في هذه اللحظات هو إشارة للقوة، وليس للضعف، لأنه يعكس سيطرتك على نفسك وعدم انسياقك وراء الاستفزازات. إذ إن السكوت في مثل هذه الحالات يمنحك وقتًا للتفكير بعمق ولتهدئة الأجواء، وهذا ما يفتح المجال للحوار البناء عندما تكون النفوس هادئة.
وفي القرآن الكريم، نجد أن الله عز وجل دعانا إلى الصبر والهدوء في مواجهة المشكلات، وأحيانًا أفضل وسيلة لذلك هي السكوت. قال تعالى: "وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا" (الفرقان: 63). هذه الآية الكريمة ترشدنا إلى أن التجاهل والصمت في مواجهة الإساءة هو خيار العقلاء، وهو ما يعزز السلام الداخلي ويجنبنا الدخول في جدالات لا طائل منها.
ومن ناحية أخرى، نجد أنَّ هذا الموقف كان سمة أساسية للشخصيات العظيمة التي تفوقت في تاريخ البشرية. لنأخذ النبي محمد صلى الله عليه وسلم مثالًا؛ إذ كان معروفًا بصمته العميق في المواقف التي تتطلب الحكمة والتأمل؛ حيث لم يكن يرد على الإساءات اللفظية ولا يدخل في جدالات غير ضرورية، بل كان يفضل السكوت الذي يدل على قوة نفسه وثقته بربه. كما نجد في قصة نبي الله عيسى عليه السلام، حينما اختار الصمت كوسيلة للرد على الاتهامات والإساءات، وهذا دليل على أنَّ السكوت أداة فعّالة لرفع المقام وصون الكرامة.
إنَّ اتخاذه ليس فقط للحفاظ على هدوء النفس؛ بل هو أيضًا وسيلة لحفظ الكرامة. ففي العلاقات اليومية، يمكن أن نجد أنفسنا متورطين في أحاديث لا تحمل قيمة. وفي هذه اللحظات، إن بعض الأشخاص الذين يتحدثون كثيرًا قد يجدون أنفسهم يقولون أشياء غير موزونة أو غير دقيقة. هنا، تصبح الكلمة عبئًا عليهم، لأن الآخرين قد يقومون بتقييمهم بناءً على حديثهم غير المحسوب. بينما الشخص الذي يلتزم به ويختار كلماته بعناية، يصبح من الصعب تقييمه بسهولة. وكما يقولون، الأشخاص الذين يتحدثون كثيرًا قد يكشفون ما في جعبتهم، بينما أولئك الذين يصمتون يمنحون الآخرين مساحة للتفكير قبل إصدار الأحكام عليهم. ولذلك، الأشخاص الذين يلتزمون بالهدوء ويستمعون باهتمام، يحسب لهم الآخرون ألف حساب، لأنهم قد يظهرون حكمة أعمق وفهمًا أكبر. على العكس من الشخص الثرثار، الذي قد يكون فارغًا في محتواه، فإن الشخص الذي يتخذ هذا النهج غالبًا ما يعتقد الناس أنه يمتلك الكثير، وأنه يخفي في هدوئه حكمة لا تظهر بسهولة.
وكذلك، فإنَّ ذلك يعتبر من الفضائل التي تساهم في تهذيب النفس. فكم من مرة تحدثنا باندفاع وندمنا بعد ذلك على ما قلناه؟ والكلمة التي تُقال لا يمكن استعادتها، ولهذا فإن القدرة على التحكم في ما نقوله والتفكير قبل الكلام هي فضيلة عظيمة. خذ مثلاً الشخص الذي يدخل في جدالات كثيرة مع زملائه في العمل أو مع أصدقائه. فكلما كان يحاول الدفاع عن نفسه أو وجهة نظره بشكل متسرع، كلما تزداد حدة المواقف وتتعقد الأمور. لكن عندما يختار السكوت والتروي، فإنه يمنح نفسه فرصة لتهدئة الأجواء وربما يفكر بشكل أعمق في ردود أفعاله.
كما إن هذا التصرف له قيمة عالية في العلاقات الشخصية. ففي كثير من الأحيان، يكون الصمت هو الجواب الأمثل لتجنب تصاعد الخلافات، خصوصًا في العلاقات العاطفية أو الأسرية. فعندما نشعر بالغضب أو الإحباط، نميل إلى الرد السريع والعنيف. ولكن السكوت في هذه اللحظات يعطينا الوقت لاستعادة توازننا والتفكير بحكمة في كيفية التعامل مع الموقف. وهذا بالضبط ما يجعل الصمت أداة فعالة لتحسين العلاقات وبناء جسور من التفاهم والتواصل.
ولا يقتصر هذا التصرف على التوقف عن الحديث؛ بل على القدرة على الاستماع والتأمل. فنحن بحاجة إلى أن نصمت ونستمع لما يدور حولنا بعمق. وبالإضافة إلى ذلك، فإن الإنصات الجيد هو أحد أهم المهارات التي يفتقر إليها الكثيرون، فالكثير من الناس يميلون إلى الكلام أكثر مما يسمعون. لكن الشخص الذي يملك عقلًا واسعًا وقلبًا هادئًا، يعرف متى يجب أن يصمت ليُصغي؛ لأن في الاستماع تنكشف الكثير من الحقائق التي قد لا نراها في وسط الكلام المتبادل. كما أن الإنصات يُظهر الاحترام للآخرين ويجعلهم يشعرون بالتقدير، وهو ما يعزز الروابط الإنسانية ويزيد من مستوى التواصل الفعّال.
إضافة إلى ذلك، فإنه يمنحك القدرة على التفكير بعمق قبل اتخاذ أي قرار. فالتسرع في الرد أو التعليق قد يقودنا إلى اتخاذ قرارات غير محسوبة، ولكن الصمت يتيح لنا الوقت للتأمل والتفكير في الخيارات المتاحة. وفي الإسلام، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يوصي بالصمت كفضيلة؛ حيث قال: "من كان يُؤمن بالله واليوم الآخر فليقل خيرًا أو ليصمت" (رواه البخاري ومسلم). هذه الحكمة النبوية تؤكد لنا أن الصمت ليس فقط وسيلة للهدوء، بل هو أيضًا وسيلة للحفاظ على العلاقات وتجنب الوقوع في المشاكل.
ولنأخذ مثالًا من حياتنا المهنية: تخيل أنك في اجتماع مهم، وهناك جدال حول موضوع مُعين. بينما يُحاول الجميع فرض آرائهم، أنت تجلس صامتًا تستمع لكل ما يُقال. وعندما يأتي دورك، تكون كلماتك موزونة ومدروسة، وقد تفتح آفاقًا جديدة لحل الخلاف. وهذا ما يجعل الصمت أداة للتأثير، فكل كلمة تأتي بعده تحمل ثقلًا أكبر وتأثيرًا أعمق؛ لأنه يسمح لك بالتفكير بشكل أعمق ويعزز من تأثير كلماتك عندما تختار أن تتكلم.
وفي الختام.. نجد أن اتخاذ هذا الخيار ليس ضعفًا، بل هو قوة داخلية تدل على حكمة الشخص واتساع عقله. ما أجمل أن نتحلى بالسكوت في الأوقات التي تستدعي ذلك، وما أجمل أن نختار كلماتنا بحكمة عندما نقرر التحدث. وعندما نتحلى بهذه السمة، نحن لا نسيطر فقط على ألسنتنا، بل نسيطر أيضًا على مشاعرنا وأفكارنا. وبالفعل، السكوت من ذهب لأنه يتيح لنا التفكير، التأمل، والعيش بسلام داخلي بعيدًا عن التوترات والنزاعات.
لذا.. دعونا نتعلم كيف نُوَسِّع عقولنا بالصمت في الأوقات المناسبة، ولنتذكر دائمًا أن الكلمات ليست دائمًا الحل، وأن الصمت في كثير من الأحيان يكون الخيار الأفضل لحياة هادئة ومليئة بالتفاؤل والحكمة.