المقاومة.. مسيرًا ومصيرًا

 

د. إسماعيل بن صالح الأغبري

وقعت أكثر بلدان العالم الإسلامي تحت مخالب الاحتلال، واستمر ذلك عقودًا من الزمن، مارس المُحتل خلالها صنوفًا من التنكيل بالسكان قتلًا وإبعادًا وتشريدًا ونفيًا لرموز المُقاومة، وامتصَّ خيرات البلدان الاقتصادية، كما عمد إلى اعتبار تلك البلاد المحتلة على أنها جزء من ممتلكاته الشرعية، وذلك من خلال ثقافة التغريب التي اتبعها والثقافة التي سعى إلى تعميمها بين السكان، إضافة إلى مُحاولات التبشير والتنصير، مستحضرًا الدين ومُستعينًا به في تشريع هيمنته واستعماره، وكأنَّ "الرب" أمره بالاستعمار.

قامت الشعوب على محتليها فخاضت حروب التحرير بالطرق الخشنة، وكان الجهاد أعلاها وأمضاها وهو مصطلح شرعي إسلامي رغبت فيه جميع أشكال المقاومة إسلامية أو قومية أو وطنية لعلم الجميع بأنَّ الدين جامع للجميع، وهو أقوى عامل محرك للشعوب المسلمة من أجل الانخراط في حروب التحرير، وحيث إنَّ المحتل استنزل الدين في تبرير احتلاله فناسب مُقابلة ذلك بالمفردات الشرعية الإسلامية.

بقيت فلسطين قلب العالم الإسلامي مُحتلة، وفي سبيل منع تحريرها أسوة بأخواتها من بلاد المسلمين ورغبة من الغرب في التخلص من الوجود اليهودي على أرضه، وسعيًا منه في إيجاد مواطئ قدم متقدمة له في العالم الإسلامي تعاونت الدوائر الغربية على إقامة إسرائيل على أنقاض فلسطين، والتزمت المملكة المتحدة بالرعاية والتنفيذ، وكانت بمثابة الأم الحانية ثم سلَّمت الراية للمربية الأمينة الولايات المتحدة الأمريكية مع ضمان التأييد الغربي الكاسح للمولود الجديد إسرائيل.

لفلسطين نكهة خاصة ومنزلة كبيرة في الشريعة الإسلامية وأفئدة المسلمين فهي قبلتهم الأولى، ومسرى نبيهم، ومنطلق معراجه إلى السموات العلى، وفيها المسجد الأقصى الذي إليه تشد الرحال، وقبة الصخرة، وحائط البراق.

لذلك لم يكن من السهولة بمكان القبول بتحرر سائر ديار الإسلام من الاستعمار العسكري دون تحرير فلسطين منه، فخاض في سبيل ذلك الوطنيون والقوميون والإسلاميون غمار حروب التحرير غير أن المقاومة ذات الشعارات الإسلامية تمكنت أكثر من غيرها من إثبات وجودها في النكاية بالعدو، واستقطبت تأييدًا عارمًا داخل الأرض المحتلة وخارجها في العالم الإسلامي.

إسرائيل والغرب تحديدًا يخشيان من المجموعات المسلحة المؤدلجة أو المصبوغة بصبغة إسلامية للأسباب آنفة الذكر، وتجليات ذلك واضحة في حرب إسرائيل على غزة فلعله لو لم تكن مجموعات المقاومة مصبوغة بالصبغة الدينية لضغط الغرب على إسرائيل من أجل التلطف قليلًا في حربها على الفلسطينيين، ولعل إسرائيل أيضًا لم تكن لتلجأ لتلك الأساليب من الإبادة الجماعية.

عددٌ من البلاد العربية من أصحاب المنهج الغربي المُتطرف ترغب في التخلص من أشكال المقاومة ذات الآيدلوجية الإسلامية السياسية، وكذلك فإنَّ عددًا منها يرى أن المُعيق الرئيس لدمج إسرائيل في المنطقة، وإقامة علاقات طبيعية معها، واندماجها في المحيط العربي، وقبول الشعوب لها، هو المجموعات الإسلامية المسلحة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق، لما لها من دور في إلهاب المشاعر ضد إسرائيل، وتأصيل العداء لها من خلال النصوص الشرعية.

المعجبون بحركات المقاومة الإسلامية في مختلف البلدان الإسلامية ملايين الملايين من النَّاس، وهذا يعني أنهم يريدون مواصلة القطيعة مع إسرائيل؛ بل يسعون إلى عرقلة الاعتراف بها؛ بل ويرون عدم شرعيتها، ووجوب تحرير فلسطين كل فلسطين منها، وهذا يناقض حتى ما اتفقت عليه الجامعة العربية ومنظمة التعاون الإسلامي من الاعتراف بإسرائيل على حدود عام 1967.

دول عربية تعتقد أنه يمكنها الاستفادة من قدرات إسرائيل التقنية والفنية، كما يمكنها الاستفادة من بعض أسلحتها وأجهزتها الاستخباراتية، وقد ترى بعض هذه الدول أن إسرائيل هي السبيل الوحيد لحمايتها مما تتصوره من خطر دول أخرى عليها؛ بل إن هذه الدول العربية قد تلوح بورقة علاقاتها مع إسرائيل لإرهاب غيرها من الدول العربية.

والتخلص من هذه المقاومات الإسلامية في بلدان عربية مختلفة يمثل سعيًا وأمنية من هذه الدول العربية، فما يجري الآن هو تمهيد للتخلص منها في فلسطين ولبنان واليمن والعراق.

أما الغرب فيخشى من المُقاومات ذات الصبغة الإسلامية لأنها تلهب المشاعر ضده، وتحرك الشعوب لمُقاومة إسرائيل وتحريض الناس على معارضة إقامة علاقات طبيعية معها.

الدول الغربية تعتبر إسرائيل ذراعها المتقدم في العالم الإسلامي وقاعدتها المنصوبة في فلسطين، وقد تم إنشاؤها لتترعرع وتنمو، وليس لتضعف وتتلاشى أو تنكمش، ولذلك رأى العالم كيف تقاطر زعماء الغرب إلى تل أبيب على إثر أحداث السابع من أكتوبر 2023، وجميعهم أعرب عن دعمه لإسرائيل في ردها كيفما كان الرد وأينما كان الرد، ومن هنا فلا غرابة مع سقوط ما يقرب من خمسين ألف قتيل في غزة لم يزل الغرب يؤيد إسرائيل بترسانة من مختلف أنواع الأسلحة، ويسعى جاهدا للدفاع عنها في المحافل الدولية.

إسرائيل ذاتها ترى أن المقاومة المؤدلجة إسلاميًا أشد خطرًا عليها من الحركات القومية والوطنية، والذي يقرأ أو عايش تلك الحركات ويقارنها بأشكال المقاومة الإسلامية سيجد أنَّ القومية والوطنية لم تتمكن من الصمود أو البقاء طويلًا كما لم تتمكن من الحشد والالتفاف الكثيف معها؛ باستثناء حالة جمال عبد الناصر الذي اعتبره كثير من الناس شخصية جامعة.

أما إيران فتُعتبر العمود الفقري للمجموعات الإسلامية المسلحة المقاومة لإسرائيل في فلسطين ولبنان والعراق واليمن، فهي الممول لها ماديًا ومعنويًا، والنظام فيها ينسجم في كثير من التوجهات مع ما تؤمن به المقاومة من عدم الاعتراف بشرعية إسرائيل، وتمنِّي زوالها، وهي ذات آيديولوجية تخالف ما عليه توجهات معظم دول منظمة التعاون الإسلامي.

دول عربية والعالم الغربي راغب في تبدل النظام، ومجيء آخر مقرب من الغرب، يؤمن بإسرائيل، وطال انتظار هذه الدول لحدوث تغيير من داخلها على اعتبار أن وهج الثورة الإسلامية في إيران ليس كما كان في الثمانينات والتسعينات، والذي عزز ذلك الطموح هو الخنق الاقتصادي الغربي لإيران إلا أنَّ ذلك الأمل لم يتحقق.

إسرائيل وعدد من الدول ترى أن هذه الفرصة من أجل قصم ظهر إيران خاصة، والمقاومات بشكل عام لن تتكرر، ولذلك تتمنى دخول إيران في حرب، تستنزف طاقاتها، وتضرب مشاريعها الطموحة، وبذلك يتحرك الناقمون عليها من الداخل.

ويبدو أنَّ إيران تدرك هذه الرغبة، ولذلك تتريث كثيرًا في إمكانية الدخول في حرب مع إسرائيل رغم اغتيال إسرائيل عددًا من علمائها، واغتيال إسماعيل هنية زعيم حركة حماس في طهران، ثم اغتيال حسن نصر الله زعيم حزب الله في لبنان.

كثير من الجماهير الكارهة لإسرائيل تتمنى اندلاع حرب شاملة نظًرا للعاطفة الجياشة إلّا أن اندلاعها يعني دخول قوى عربية عن طريق التمهيد لها ودخول الغرب علانية مع إسرائيل، وقد تباشر دول غربية الحرب، وبذلك يتم القضاء على هذه المقاومات، ويتم ضرب رأس المقاومة وعمودها الفقري إيران، فتنتهي أشكال المقاومة، ويتم التهافت نحو إسرائيل لإقامة علاقات معها، وينتهي هذا الصراع الطويل، وترتاح هذه الدول من هذا الصداع المزمن الذي تسببه إيران والجماعات الإسلامية الرافضة لإسرائيل ومعها شعوب العالم الإسلامي.

إنَّ إيران تنسج سياستها أدق من نسجها السجاد الإيراني؛ فهي تقرأ المشهد السياسي والعسكري، ولها طموحات تريد الوصول إليها، فدخولها في حرب قبل بلوغها يعني الإطاحة بمساعيها، والقضاء على أمانيها، والعودة إلى الوراء، وهو ما لا تُريده.

الأكثر قراءة