هل بدأت الحرب المفتوحة بين إسرائيل و"حزب الله"؟

 

د. هيثم مزاحم **

يتعرض لبنان منذ أسبوع لعدوان صهيوني وحشي واسع؛ إذ استهدفت مئات الغارات الإجرامية التي نفذتها المقاتلات الإسرائيلية معظم مدن وقرى الجنوب والبقاعين الغربي والشمالي، وتعمدت إسرئيل في مجازرها استهداف المدنيين في منازلهم ومتاجرهم وأسواقهم وسياراتهم؛ ما أدى إلى استشهاد نحو 500 مدني معظمهم من النساء والأطفال والشيوخ، ونحو 1700 جريح، ونزوح مئات آلاف اللبنانيين من جنوب لبنان والبقاع إلى بيروت وشمال لبنان وسوريا.

وقد أطلق جيش الاحتلال الإسرائيلي على عدوانه الجديد على لبنان تسمية "سهام الشمال"، بعدما أضافت حكومة نتنياهو الأسبوع الماضي هدفًا جديدًا لأهداف عدوانها الإبادي على قطاع غزة، وهو إعادة سكان شمال الكيان المحتل إلى بلداتهم ومنازلهم، بعدما نزحوا إثر فتح حزب الله جبهة الإسناد للمقاومة الفلسطينية في قطاع غزة في الثامن من أكتوبر 2023 واستهداف عدد كبير من القواعد والتجمعات العسكرية في المستوطنات الإسرائيلية في شمال فلسطين المحتلة.

ويسعى جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى ضرب قدرات حزب الله العسكرية والبشرية قدر المستطاع، بدأ ذلك بضربات أمنية وعسكرية موجعة للمقاومة بعدما استطاع اختراق شبكة التوريد لحزب الله وتفخيخ شحنات كبيرة تضم الآلاف من أجهزة البيجر واللاسلكي، وقام بتفجيرها بنحو خمسة آلاف من حامليها من مسؤولي وعناصر حزب الله، وهو ما أسفر عن استشهاد أكثر من 45 عنصرًا وجرح نحو  4 آلاف آخرين، إصابة المئات منهم حرجة، فيما فقد المئات أبصارهم أو أطرافهم. وقد أقر أمين عام حزب الله حسن نصرالله بأن هذه ضربة أمنية موجهة لم يشهد حزبه مثيلًا لها منذ تأسيسه عام 1982، إذ لم يشهد التاريخ استهدافًا لخمسة آلاف شخص خلال دقيقتين بتفجير أجهزة اتصالاتهم.

مجزرتا أجهزة البيجر والووكي توكي يوم الثلاثاء والأربعاء الماضيين، لم تكونا الضربتين الوحيدتين لحزب الله وبنيته التنظيمية والعسكرية، إذ فاجأ العدو الإسرائيلي المقاومة باستهداف اجتماع لقيادة فرقة الرضوان بغارة بمقاتلات إف-35 استهدفت مبنى في الضاحية الجنوبية لبيروت؛ حيث دمرت مبنيين سكنيين يسكنهما مدنيون، من أجل الوصول إلى ملجأ أحد المبنيين في الطابق الثاني تحت الأرض حيث اجتمعت لجنة فرقة الرضوان، فرقة النخبة لحزب الله، برئاسة قائد العمليات في الحزب إبراهيم عقيل ونائبه أحمد وهبي، مع مسؤولين وعناصر آخرين، إذ سقط عقيل ووهبي و14 آخرين شهداء، بينما استشهد نحو 50 مدنيًا من سكان المبنيين أو من المارين قربهما، في منطقة مكتظة بالسكان والمتاجر وفي وقت الذروة ظهيرة يوم الخميس الماضي.

ويقال إن إبراهيم عقيل، وهو مطلوب للأمريكيين بتهمة التخطيط والإعداد لتفجير مقر قوات المارينز في بيروت عام 1983، قد تسلم القيادة العسكرية في حزب الله بعد اغتيال فؤاد شكر، القائد العسكري السابق، في غارة على المبنى الذي كان يقيم فيه في الضاحية أواخر يوليو الماضي.

ولا شك أن هذين الاغتيالين لكل من شكر وعقيل هما ضربتان مؤلمتان لحزب الله ونصرالله، إضافة إلى مقتل قائد قوة الرضوان أحمد وهبي مع عدد من رفاقه في القوة في الغارة الأخيرة. وكان الحزب قد فقد قادة آخرين على مراحل منذ فتح جبهة الإسناد في 8 أكتوبر 2023، أبرزهم أبو طالب وأبو نعمة ووسام الطويل، وعشرات الكوادر والمقاومين وصل عددهم إلى أكثر من 500 شهيد.

وتثير عمليات الاغتيال هذه للقادة الكبار وخاصة لكل من شكر وعقيل، وأخيرًا محاولة اغتيال القائد العسكري الثالث، علي كركي، الذي يتولى قيادة جبهة الجنوب، في غارة في الضاحية أمس، تثير تساؤلات وشكوكًا حول احتمال اختراق أمني إسرائيلي على مستوى عالٍ، خاصة أن كلًا من شكر وعقيل غير معروفين إلا بين عدد قليل من القيادات والمسؤولين في الحزب، وهما مطاردان من الاستخبارات الأميركية والإسرائيلية، وليس لهما صور حديثة. كما يفترض أنهما يتجنبان استخدام أجهزة الاتصالات الخلوية والإنترنت، وأنهما كان يحيطان تحركاتهما وأماكن إقامتهما وسكنهما بسرية كبيرة.

ولعل استخدامهما أجهزة البيجر قد كشفت موقعيهما وأماكن عملهما وسكنهما وتحركاتهما، مع غيرهم من المسؤولين والكوادر التي كانت تستخدم هذه الأجهزة. لكن استهداف عقيل واجتماع فرقة الرضوان قد حصل بعد يومين من تفجير أجهزة البيجر، مما يفترض أن القادة قد تخلوا عن استخدامها وابتعدوا عن كل أنواع أجهزة الاتصالات إلى حين تأمين البديل الآمن. وهنا يبرز السؤال الذي ستحقق فيه الأجهزة الأمنية في الحزب، هل كان مكان اجتماع فرقة الرضوان مكشوفًا في وقت سابق للاستخبارات الإسرائيلية، وخاصة أن المقالتلات الإسرائيلية كانت تعرف أن الاجتماع يعقد في الطابق الثاني تحت الأرض، وهي قامت بتدمير المبنى وتسويته على الأرض أولًا ثم قامت باستهداف الملجأ بصواريخ لضمان وصولها إلى مكان الاجتماع تحت الأرض. وعلى افتراض كان المكان مكشوفًا مسبقًا، كيف علمت الاستخبارات الصهيونية بخبر انعقاد الاجتماع وتوقيته، إذ زعمت مصادر إسرائيلية أنه اجتماع نادر وعلمت به قبل نصف ساعة من تنفيذ الغارة لاستهداف قيادة الرضوان.

وثمة اعتقاد لدى قادة جيش الاحتلال أن حزب الله يواجه صعوبة في تثبيت التسلسل الهرمي في قيادته العليا وملء الرتب المتوسطة، بعد استهداف قادة رئيسيين في الحزب، بدءًا بفؤاد شُكر، وانتهاءً بقادة الفرق والألوية الذين شغلوا مراكز مهمة. كما اعتقدوا واهمين أن ضربات البيجر واللاسلكي قد أربكت التحكم والسيطرة في المقاومة وأعاقت التواصل الفعال بين القيادة والمقاومين، وأن الغارات الاستباقية الكثيفة على ما تعتقد إسرائيل أنه منصات لإطلاق الصواريخ قد دمّرت نصف مخزونها من الصواريخ. لكن غزارة صيلات الصواريخ خلال الأيام الثلاثة الماضية وصولًا إلى حيفا وما بعد حيفا، ودك مطارات وقواعد ومصانع عسكرية، تؤكد كذب هذه المزاعم ووهم قادة العدو.

على أي حال، جاءت هذه الضربات الإسرائيلية تمهيدًا للعدوان الواسع الذي بدأ أمس الاثنين، ضمن خطة إسرائيلية للضغط بالدماء على حزب الله. خطة نتنياهو هي تدفيع الشعب اللبناني والبيئة الحاضنة للحزب ثمن مواقفه التي تربط وقف إطلاق النار في الجنوب بوقف إطلاق النار قي قطاع غزة. تظن إسرائيل أن السكان سيضغطون على الحزب لوقف الحرب مما يعيد مستوطني شمال الكيان إلى منازلهم.

إذن، معركة عض الأصابع بين جيش الاحتلال وحزب الله قد بدأت ولا يبدو أنها ستنتهي في وقت قريب. فالمجرم نتنياهو يبدو أنه نسي عزيمة وعقيدة قيادة المقاومة ومجاهديها من جهة، واستعداد بيئته لتقديم تضحيات في سبيل القضية الفلسطينية ومقاومة الاحتلال الصهيوني من جهة أخرى. فلبنان يدفع ثمن قيام الكيان الصهيوني في فلسطين منذ عام 1948 وخاض حروبًا كثيرة منذ معركة المالكية عام 1948 وصولًا إلى اجتياح جزء من جنوب لبنان عام 1978، والغزو الشامل للبنان عام 1982 وعدواني 1993 و1996 وصولًا إلى عدوان 2006، وأخيرًا إلى الاعتداءات اليومية المستمرة خلال نحو سنة منذ الثامن من أكتوبر 2023. لكن مشكلة العدو الإسرائيلي أنه لا يتعلم من دروس التاريخ بل يكرر الأخطاء نفسها، إذ يعتقد أن بتفوقه التكنولوجي والعسكري والدعم الأميركي المطلق له سيكسر إرادة المقاومة، لكن قادة الاحتلال مخطئون ومتعنتون تعميهم العقيدة الصهيونية والتلمودية والتمسك بالسلطة والأرض كلها، ورفضهم لجميع مبادرات التسوية السلمية وقيام دولة فلسطينية.  

المقاومة في لبنان أعدت خلال 14 عامًا لهذا اليوم، يوم الدخول في مواجهة مفتوحة مع الكيان الغاضب. وعلى الرغم من الضربات الموجعة الأسبوع الماضي والمجازر أمس، لن تتنازل المقاومة عن شروطها لوقف الحرب، وأبرزها وقف العدوان على قطاع غزة. فلم ترهبهم "عناقيد الغضب" أو ولن ترهبهم "سهام الشمال"، فسوف ترتد سهامهم إليهم مجبولة بغضب ودماء ودموع اللبنانيين، بمواكبة صواريخ بركان وفادي وفجر وزلزال ورعد ومسيّرات الهدهد.

** رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية- لبنان

الأكثر قراءة