رحلة في تاريخ الصين (1- 4)

 

د. هيثم مزاحم

يقول الباحث اللبناني إلياس فرحات في كتابه "الكونفوشيوسية الميسّرة وتاريخ الصين"، الصادر عن دار زمكان عام 2023، في مقدمة الكتاب إن الحضارة الصينية هي واحدة من أقدم الحضارات في العالم وهي الوحيدة التي استمرت من دون انقطاع ولم تندثر كما اندثرت حضارات مصر الفرعونية واليونان القديمة وأشور وبابل. فقد استمرت الحضارة الصينية نحو ثلاثة آلاف عام شهدت خلالها حكم أسر وسلالات، وحقبات وعدم استقرار ونزاعات بين ممالك وإمارات، وحكم قادة عسكريين في مقاطعات مختلفة. لكن هذه الحضارة سرعان ما كانت تتحد مجددًا، فبقيت بلاد الصين موحدة. وهذا ما مكّنها من الاستمرار بالمسيرة الحضارية في العلوم والفلسفة والآداب والعمارة والزراعة والصناعة.

يلاحظ فرحات أنه غالبًا ما ترافقت هذه الاستمرارية والوحدة للحضارة الصينية مع شبه انعزال عن العالم الخارجي. غير أن الاحتكاكات مع العالم الخارجي قد بدأت مع المغول في القرن الثالث عشر الميلادي، ثم مع الاحتلال البريطاني في حربي الأفيون، فالحرب الصينية اليابانية، وصولًا الى الثورة الصينية، التي أدت عام 1911 الى إنشاء جمهورية الصين على أنقاض إمبراطورية المانشو، واستمرت لحين إعلان جمهورية الصين الشعبية بقيادة ماو تسي تونغ عام 1949.

لقد دفع صعود الصين في العقود الثلاثة الأخيرة الكثير من الباحثين والمراقبين للسؤال عن تاريخ هذا الشعب وثقافته ومعتقداته ونظامه الاجتماعي السياسي الذي يدير دولة يبلغ عدد سكانها نحو مليار وأربعمائة مليون نسمة.

يعلن فرحات أن ما يقدمه في كتابه هنا هو التعريف بالكونفوشيوسة الميسّرة وعرض موجز عن تاريخ الصين، كي يكون مقدمة لفهم الثقافة الصينية والبيئة السياسية - الاجتماعية التي كان يعيش فيها الحكيم كونفوشيوس، ثم سيعرض للكونفوشيوسية كحكمة وفلسفة وفكر. كما يتضمن القسم الأخير من الكتاب ترجمة لكتاب مختارات من كونفوشيوس وهو الكتاب الرئيسي الذي يحفظ سيرة المعلم كونفوشيوس وأفكاره.

في القسم الأول من الكتاب، يعرّف الباحث بجغرافيا الصين التي تعتبر من أكبر دول العالم مساحة وتحتل المرتبة الرابعة بعد روسيا وكندا والولايات المتحدة، إذ تبلغ مساحتها   9.596.960 كيلومترًا مربعًا. وهي تمتد من المحيط الهادئ في الشرق الأقصى الى جبال بامير في آسيا الوسطى، ومن نهري أمور وأوزوري في الشمال الشرقي الى خليج تونكنغ في الجنوب. وتفصلها عن سيبيريا صحراء جوبي والهضبة المنغولية. إلى الجنوب والغرب تحد القمم الثلجية لجبال هملايا هضبة التيبت، وفي الجهة الجنوبية الشرقية هناك قمم جبال تكسوها الغابات والأدغال. يغطي بحرا الصين الجنوبي والشرقي قوسًا من الجزر يمتد عبر المحيط الهادئ تتبع للصين منذ القدم. وعلى مدى أكثر من عشرة قرون كان اتصال الصين بالعالم الخارجي يمر عبر سلسلة واحات، من صحراء جوبي وحوض نهر تاريم وتتابع الطريق عبر آسيا الوسطى، وصولًا الى الشرق الأدنى. كانت العزلة النسبية للصين عاملًا مؤثرًا في تاريخها، إذ لم تخرج من عزلتها إلا في القرن التاسع عشر.

تشكل الصحاري والجبال قوسًا مأهولًا بالسكان يمتد عبر السهول الساحلية الى الشمال الشرقي على امتداد النهر الأصفر ونهر يانغستي. يمتاز حوض النهر الأصفر بتربة خصبة صالحة للزراعة وكان مهد الحضارة الصينية القديمة التي انتشرت جنوبًا الى نهر اليانغستي وما وراءه ليضم مناطق مأهولة أخرى تعيش على الزراعة. وامتدت الحضارة الصينية الى أدغال بورما (ميانمار) والهند الصينية والى حدود صحاري منغوليا وآسيا الوسطى.

انتشرت أعداد غفيرة من السكان خارج وادي النهر الأصفر وعاشوا على الزراعة. وبين النهر الأصفر ونهر يانغستي منطقة تفصل الشمال حيث تنتشر الزراعات الجافة مثل القمح عن الجنوب، حيث تسقط الأمطار بغزارة وتنتشر زراعة الرز وتنمو على التلال مصاطب مزارع الشاي وأشجار التوت المستخدمة لإنتاج الحرير.

ويرى فرحات أن هذه الفوارق في الجغرافيا والإنتاج الزراعي كانت أحد أهم اسباب الانقسامات السياسية بين الأقاليم. فغالبية الأرض الصينية غير صالحة للزراعة وتبلغ مساحة الأراضي الصالحة للزراعة ومعظمها حول ضفاف الأنهار، عشر المساحة الإجمالية للبلاد.

لقد أدى استيطان عدد كبير من السكان على ضفاف الأنهار وعلاقات الإنتاج الزراعي في ما بينهم، الى قيام نظام اجتماعي اقتصادي مستقر، واقتصاد بدوي رعوي غير مستقر وظهرت سلطة حكم إقطاعية وملكية تطورت الى تشكيل إمبراطورية. وكان الاكتفاء الذاتي بالمنتوجات الزراعية والحيوانية عاملًا من ضمن عوامل أخرى فرضت على الصين عزلة عن العالم.

                                      

مرحلة ما قبل التاريخ

ورد في كتابات المؤرخين الصينيين أنه بين الألفية الرابعة والألفية الثالثة قبل الميلاد كانت منطقة المنحنى الكبير للنهر الأصفر مركزًا مهمًا لحضارة العصر الحجري المتقدم. وقد نشأت أسر قوية وعرفت أول أسرة حاكمة بالهسيا. وأسس "يو" العظيم هذه الأسرة وواجه في مطلع الألفية الثانية خطر الفياضانات. وورد في بعض الأساطير أن "يو" قتل كثيرًا من الوحوش والأرواح الشريرة التي اعترضت سبيله. تضيف الأسطورة أنه عمل من دون كلل ولم يدخل منزله فترة 13 عامًا رغم مروره قربه في ثلاث مناسبات وسماع بكاء أطفاله.

بعد الألف الثاني قبل الميلاد، أخذ النظام العشائري بالتفكك في الصين، لتحل مكانه حكومة مركزية. كانت أسرة "هسيا" أول من استعمل العبيد الذين كانوا يأسرونهم من القبائل المعادية. دامت اسرة "هسيا" من عام 2070 قبل الميلاد الى عام 1600 قبل الميلاد.

في القرن السادس عشر قبل الميلاد هاجمت قبيلة "شانغ" أسرة "هسيا" وهزمتها وبسطت سلطتها على المناطق الوسطى والجنوبية من النهر الأصفر وبذلك تأسست أسرة "شانغ" الحاكمة.

 

أسرة شانغ.. من القرن 16 ق.م الى القرن 11  ق.م

كانت قبيلة "شانغ" زراعية تستخدم المعازق لحراثة التربة ولشق أقنية الري. ومن اهم المحاصيل التي كانت تنتجها القمح والأرز. استخدم الشانغ العربات ذات العجل والخيول بكامل عدتها لجرها وجر العربات الحربية والملكية.كما ازدهرت صناعة القماش من الكتان والحرير، واستخدم البرونز لصناعة الرماح والسهام والإبر والسكاكين. وقد ساعدت هذه الأدوات على اكتساب المهارات وزيادة الإنتاج.

صنع الشانغ الورق والكتب من قشور الخيزران والألواح الخشبية واستخدموا وسيلة حادة للكتابة. وأنشأوا لغة مكتوبة مؤلفة من آلاف الرموز والإيديوغرافات ذات الصلة الوثيقة باللغة الصينية الحالية. يدأت الكتابة بالصور والرسوم البسيطة التي تطورت فأصبحت رموزًا بأسلوب محدد. فالكتابة الصينية تجري من أعلى الى أسفل ولا تتغير تبعًا للهجات المحلية. استمرت اللغة المكتوبة ثابتة في جميع أنحاء الصين حتى في المناطق التي أحدثت فيها اللهجات المحلية المنطوقة تغييرات كبيرة. ويعتبر ذلك من العوامل الأساسية التي حافظت على التجانس الثقافي للشعب الصيني.

في القرن الحادي عشر قبل الميلاد، أضعفت الحروب المتكررة أسرة "شانغ" ودفع ظلم الحكام واستبدادهم العبيد الى الثورة. وهاجمت قبيلة "تشاو" مواقع الشانغ وفر قسم كبير من العبيد وانضموا الى جيش "تشاو" بقيادة الملك "وو" الذي هاجم عاصمة الشانغ واستولى عليها ولقي ملك الشانغ حتفه عندما أحرق قصره وانتهى بذلك عصر أسرة ال"شانغ".

 

أسرة تشاو الغربية.. من القرن 11 ق.م الى عام 770 ق.م

وصل ال"تشاو" من غرب النهر الأصفر واستولوا على حكم "الشانغ" وكانوا متخلفين حضاريًا عنهم، فاعتمدوا الكثير من تنظيمات حكم "شانغ" بما فيها الزراعة واتقنوا استخدام البرونز. استمر حكمهم تسعة قرون قسمت الى قسمين التشاو الغربية نسبة الى العاصمة "هاو" والتشاو الشرقية.

كان ملك التشاو الحاكم المطلق والمصدر الوحيد للسلطة وكان يعتقد أنه ينحدر من نسل إله زراعي وهو ممثل السلطة الإلهية ويلقب بـ"إبن السماء" فهو وحده من يقدر على إقامة الطقوس والشعائر وتقديم القرابين.

في عصر ال"تشاو" نشأت فكرة أن الحاكم الظالم والشرير يفقد تفويض السماء وبذلك تم تبرير سقوط حكام ال"شانغ" السابقين بأن السماء سحبت تفويضها لهم بسبب تخليهم عن الفضيلة، في حين نجح ال"تشاو" بسبب تمسكهم بالفضيلة.

وهكذا فالثائر الناجح يقال إنه حظي بالرعاية الإلهية والثائر الفاشل لص ونذل. وهناك مثل صيني قديم يقول :"من ينجح يصبح إمبراطورًا ومن يفشل يصبح لصًا." 

ابتكر الخيال الصيني وحوشًا وأشباحًا أبرزها التنين الصيني الذي أصبح رمزًا لقوة المطر وما يصدر عنه من خصب ونمو للمزروعات. وكان يرمز إلى إله الماء ثم أصبح رمزًا لإبن السماء نفسه والذي جعل عرشه على هيئة تنين ولم يسمح لاحد غيره استخدام التنين.

كان البقاء والهلاك في هذا العصر يرتبط بمتغيرات الطبيعة، فتوجهت العبادات الأولى نحو تحقيق توازن مناسب لعناصر الطبيعة. عقيدة الـ"ين والـ"يانغ" أظهرت توازن الطبيعة بين القوى السلبية والإيجابية المتقابلة والمتكاملة. وتعتمد على بعضها البعض بشكل متبادل: الأنثى والذكر، النور والظلام، القمر والشمس، الأرض والسماء. وهي القوى المزدوجة التي تتحكم بالعالم.

خلال الألفية الأولى قبل الميلاد توسعت الزراعة وتربية المواشي في الصين وساعد ذلك على نشأة الحياة المدنية. في الشمال ظهر اتجاه مختلف حيث لم يكن ممكنًا زراعة محاصيل في التربة الجافة. وساعدت تربية الماشية في هذه المناطق على نشوء نمط بديل هو البدو الرعاة الذين كانوا يتنقلون مع قطعانهم من المراعي الصيفية الى المراعي الشتوية وكانوا يحققون اكتفاء ذاتيًا.

وعندما امتلك الرعاة الأحصنة والدواب التي تحملهم وصنعوا العربات، شكلوا تهديدًا خطيرًا على جيرانهم المستقرين في الشمال. فكان الصراع بين أهل السهوب وأهل الأراضي المزروعة سمة ميزت تاريخ الصين على مدى عشرة قرون. كان الصينيون في الجنوب ينظرون الى الصينيين في الشمال، وهم متخلفون عنهم حضاريًا، على انهم برابرة. وهذا الإسم غالبًا ما أطلق على الشعوب غير الصينية سواء أكانت مجاورة على حدودها أم بعيدة.

في القرن الثامن قبل الميلاد أضعفت النزاعات والحروب الداخلية مملكة ال"تشاو" وتعرضت لهجوم من بدو "يونغ" الذين وصفتهم المصادر التاريخية بأنهم أطالوا شعورهم وارتدوا ملابس أزرارها الى الجانب الأيسر. ومن ملامحهم البربرية الأخرى شعورهم الحمراء وعيونهم الخضراء. وكان طعامهم الرئيسي اللحم واللبن. عام 770 ق.م تعرضت مدينة "هاو" عاصمة ال"تشاو" للغزو والاحتلال من قبل هؤلاء البرابرة بالتحالف مع ولايات صينية ثائرة وقتلوا الملك واضطر خليفته الملك "بنغ" الى الفرار ونقل العاصمة الى مدينة "لو يانغ" في أقصى الشرق.

*رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية في لبنان