علي بن سالم كفيتان
تشرفتُ بصفتي عضو بالجمعية العُمانية للكتاب والأدباء، بدعوة كريمة من مركز السلطان قابوس العالي للثقافة والعلوم، لحضور محاضرة للدكتور سيف الهادي بعنوان "الأمن الفكري"، والتي أٌقيمت في مجمع السلطان قابوس الشبابي للثقافة والترفيه بصلالة، ولا أُخفيكم أنَّ العنوان شدّني كثيرًا؛ مما دفعني للحرص على الحضور.
حضرتُ رغم أنني مُقصر في كثير من الدعوات للندوات والملتقيات وورش العمل التي تهطل علينا كرذاذ الخريف في كل موسم ليقيني أنَّ معظمها يأتي تحت مظلة سياحة المؤتمرات؛ إذ بعد الجلسة الافتتاحية ومغادرة راعي المناسبة تبقى مجموعة متناثرة من مُنظِّمي المناسبة يُحدِّثون أنفسهم بما يعلمون ويرفعون توصيات لأنفسهم، وفي الغالب هي نسخة طبق الأصل من توصيات الأعوام الماضية التي لا يُنفَّذ منها شيء. لكن مثل هذه المحاضرة النوعية مختلفة باختلاف الجهة المنظمة وحرصها على مشاركة جهات ذات علاقة، وكذلك اختيار موضوع مُهم يلامس التحديات التي نواجهها في بلادنا كجزء من العالم تُؤثر فيه وتتأثر به. ولا شك أنَّ اختيار المحاضر كان مُوفّقًا؛ فالدكتور سيف الهادي رجل له أطروحاته الواقعية وحضوره اللافت على الساحة العُمانية؛ لذلك مرت 3 ساعات من الحديث والنقاش وكأنها بضع دقائق، لسلاسة الحديث وبراعة المحاضر وخصوبة الموضوع الذي تناول مفاهيم عميقة للحفاظ على الأمن والسلم الاجتماعي من الاجتياح الفكري المُنحرِف الذي يقوده الغرب ويروِّج له ويحميه بقوة الهيمنة العسكرية والأمنية ويُطبِّل له البُلهاء من أمتنا.
كانت توطئة الدكتور سيف رشيقة وناعمة لموضوع عميق وشائك، تحدث من خلالها عن أهمية تحصين المجتمع العُماني من الأفكار المُنحرفة التي تستهدف الدول الآمنة والمُستقرة، والتي نحمد الله أن بلادنا منها، وكم لامس حديث المحاضر وجدان الحضور عندما ذكر أنَّ هناك ما يربو على 4 وفود من عُمان ذهبت إلى النبي صلى الله وعليه وسلم ومنها وفد من ظفار وجميعها كانت تطلب من الرسول الكريم الدعاء لعُمان ولأهلها؛ مما يُدلِّل على أنَّ لهذا البلد وجودًا سياسيًا عريقًا؛ حيث خاطبه سيد الخلق عليه أفضل الصلاة والسلام ونصب مُلوكه على ترابه ودعا لأهله بدعوات عظيمة وامتدحهم وخصّهم عن غيرهم من الخلق، حين قال عليه أفضل الصلاة والسلام: "لو أنَّ أهل عُمان أتيت ما سبوك ولا ضربوك". إنَّنا أُمّة عظيمة وبلدة طيبة، وَجَبَ علينا حمايتها وصيانتها من الأفكار الخبيثة الضالة التي تُروِّج للخراب والدمار من خلال الصراعات المذهبية والمناطقية والإلحاد والشذوذ (المثلية الجنسية) والنسويّة، وغيرها من الأفكار الدخيلة على مجتمعنا التي تناولتها المحاضرة وأوصلتها للحضور بكل شفافية.
من الواضح أنَّ البضاعة التي يُروِّج لها الغرب لزعزعة الأمن الفكري للشعوب الإسلامية وفرض الأفعال المشينة والشاذة بالقوة، باتت صناعة جديدة يجب التحوط لها جيدًا، من خلال تقوية البناء الداخلي للمجتمع، وإصلاح التعليم، وإرساء القيم الدينية السمحة عبر منظومة المسجد، التي أشار لها المحاضر بإسهاب، وعرَّج على مثالٍ لإحدى الدول الإسلامية في شرق آسيا التي جعلت من المسجد منظومة متكاملة؛ فهو مكان للعبادة وفيه قاعات للتدريس الديني وحفظ القرآن الكريم والتثقيف الفكري، كما يحتوي المسجد على مرافق مُسانِدة كسكنٍ لطلبة العلوم الشرعية، وتتوافر به المكتبات ومساحات للعب الأطفال أثناء وجود آبائهم في هذا الصرح الديني الثقافي الشامل.
تمنيتُ أن تكون مثل هذه الأفكار الجميلة حاضرةً عند وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، وأن تُعمَّم في كل ولاية؛ بدايةً من جامع واحد ليكون كمنارة دينية وفكرية ومشعل حضاري فيها يُعبِّر عن عودتنا إلى قيمنا ومبادئنا العظيمة، فبكاؤنا في الندوات والملتقيات لن يُجدي نفعًا إذا لم نعمل على أرض الواقع.
كما تمنيتُ أن نُعظِّم من إقامة مثل هذه المحاضرات في الجامعات والمدارس كنوعٍ من التوازن في مُقابل المعروض الهزيل من الأفكار المُغايِرة التي يُغذّى بها مجتمعنا بشكل مباشر أو غير مباشر؛ فالسطحية النفعية باتتْ هي المُسيطرة اليوم مهما كانت التبعات الثقافية أو الدينية أو الفكرية، والكسب المادي أصبح هو الأولوية القصوى للجميع، بغض النظر عن مصدره؛ حيث أصبح الانسان في مجتمعاتنا ماديًا بحتًا، يُقيِّم نفسه ويُقيِّم غيره بما يكسب من مال فقط، وبات التعليم والقيم والدين في ذيل قائمة الأولويات. وهذا ما ترمي له المنظمات الدولية من خلال تدخُّلها في مناهج التعليم للدول وتحييد الدين والتقليل من أهمية القيم الإنسانية السوية.
كانت مداخلتي مع المُحاضِر حول أهمية إنشاء مركز دراسات للأمن الفكري في عُمان، في ظل هذه المُتغيِّرات الخطيرة؛ فوحدها مراكز الفكر هي التي تستطيع جسَّ نبض المجتمعات ودراسة التغيرات السلوكية فيها وتقديم الحلول الناجعة لولي الأمر.
حفظ الله بلادي.