عبد النبي العكري
منذ انطلاق حرب الإبادة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني في غزة إثر عملية "طوفان الأقصى" في 7 أكتوبر 2023، شهدت الأوضاع تصعيدًا للعمليات العسكرية والأمنية في الضفة الغربية والقدس الشرقية. لكن الكيان الصهيوني قرر أن يُصعِّد الوضع ويشن حربًا شاملة في الضفة الغربية، في توسيع لحرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني في فلسطين المحتلة.
ومهدت القيادة العسكرية الإسرائيلية لذلك بأمر وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت باستخدام الطائرات المقاتلة وطائرات الهليكوبتر المقاتلة من طراز أباتشي في العمليات العسكرية في الضفة الغربية، بعد أن كان الأمر يقتصر على المُسيَّرات المسلحة.
في صباح الأربعاء 28 أغسطس 2024، أعلن أفيخاي أدرعي المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي في بيان مشترك مع الشاباك أن الجيش الإسرائيلي منذ الفجر يشن حملة عسكرية واسعة في "السامرة" أي الشطر الشمالي للضفة الغربية، تحت اسم عملية "المخيمات الصيفية". ويشارك في العملية الآلاف من المنتسبين لقوات مختارة من المشاة وحرس الحدود والمُستعرِبين وقوات النخبة والهندسة العسكرية وجهاز الأمن العام الإسرائيلي "الشاباك". ومن ناحية التسليح، فإن هذه الحملة تشمل عربات مدرعة وجرافات ثقيلة على الأرض وتحظى بغطاء جوي من طائرات حربية وطائرات هليكوبتر مُسلّحة ومُسيَّرات مُسلّحة. كما إن الجنود مسلحون بمختلف أنواع الأسلحه الفتاكة. هذه العملية العسكرية تعد الأوسع والأخطر التي تشنها القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية منذ عملية "السور الواقي" في 2002 في ظل حكومة إيريل شارون؛ حيث أعاد الجيش الإسرائيلي احتلال الضفة الغربية كاملة وقتل المئات واعتقل الآلاف من المناضلين الفلسطينيين وهدم البيوت والمنشآت.
وأوضح المسؤولون العسكريون الإسرائيليون أن العملية تستهدف مدينة جنين بما فيها مخيم جنين ومدينة طولكرم، بما في ذلك مخيمي نور شمس وطولكرم وطوباس ونابلس ومخيماتها، وأنها تستهدف من تسميهم "الإرهابيين المسلحين". لكن أهداف إسرائيل كما يتبين من سير العمليات وتصريحات مسؤوليين إسرائيليين أخطر وأبعد من ذلك؛ حيث إن القوات الإسرائيلية تقوم بتجريف الشوارع والبنى التحتية من تمديدات مياه وكهرباء وغيرها، وتطوِّق المستشفيات وتعتقل الأطقم الطبية والإسعافية، وتقصف أهدافها بالطائرات؛ مما يُحدث دمارًا كبيرًا وخسائر بشرية هائلة، مثل تفجير مسجدين في جنين وطولكرم. ويقوم الشاباك بالتحقيق واعتقال المواطنين الفلسطينيين في بيوت يستولي عليها، وتُغلق الشوارع؛ حيث تجري العملية، وخصوصًا الشوارع المؤدية والمحيطة بالمخيمات، إلى جانب اجتياح شمال الضفة الغربية كمرحلة أولى لاجتياح الضفة الغربية برمتها في مخطط واضح لتهجير مواطنيها الفلسطينيين.
أما فصائل المقاومة الفلسطينية والمجموعات المقاتلة المستقلة (عرين الأسود مثالًا)، فإنها تُقاوِم القوات الإسرائيلية الغاشمة بإمكانياتها المحدودة؛ حيث أسلحتها مما يحصلون عليه من السوق السوداء الإسرائيلية أو يصنعونه محليًا، لكنهم مسلحون بعقيدة راسخة وتسابق على الشهادة فضلًا عن دعم شعبي لا محدود.
تتضح الأبعاد الخطيرة لهذه العملية فيما صرح به وزير الخارجية الإسرائيلية إسرائيل كاتس بأنه في سياق العملية العسكرية الجارية فإن السلطات العسكرية الإسرائيلية قد تأمر السكان بإخلاء بعض المدن مؤقتًا. واتهم إيران بأنها تقوم بتهريب الأسلحة إلى من سمّاهم "الإرهابيين الإسلاميين المسلحين". وتنبع خطورة هذا التصريح من اعتبار العملية الإسرائيلية بمثابة عملية وقائية ضد الخطر الإيراني المزعوم، ومؤشرًا قويًا على مُخطط تهجير الفلسطينيين من الضفة الغربية والقدس الشرقية باتجاه الأردن.
هذه العملية الدموية المُدمِّرة هي تتويج لمخطط إسرائيل بجعل حياة الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وغزة مستحيلة، من خلال التهويد وإقامة المُستعمرات والاستيلاء على أراضٍ وبيوت ومنشآت ومزارع الفلسطييين، وتحويل حياتهم إلى جحيم، في ظل القتل والقمع الذي تمارسه الأجهزة العسكرية والأمنية الإسرائيلية والمستوطنون الإسرائيليون.
معالم النكبة الحالية ومخاطرها
كشفت حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني منذ 8 أكتوبر 2023، عن تطور خطير للحروب والعمليات العسكرية التي سبق وأن شنتها إسرائيل ضد الفلسطينيين والبلدان العربية المجاورة. فهي تأتي في ظل أكثر الحكومات الإسرائيلية اليمينية تطرفًا وصهيونيةً بقياده نتنياهو المعروف بعقيدته الصهيونية المتطرفة واستراتيجيته لاستئصال الفلسطينيين، وهو ما يتوافق مع عقيدة الغالبية العظمى من الإسرائيليين، والذين يؤيدون هذه الاستراتيجية والتي تنطلق من الإيمان بأن كل فلسطين وجوار فلسطين "حق للإسرائيليين بوعد من الرب يَهُوه"، وأن هذه الأراضي بالأساس تعود إلى اليهود الذين سبق أن أقاموا عليها مملكة إسرائيل، حسب زعمهم. وعلى هذا فإن الفلسطينيين "هم بقايا العرب الغُزاة وتهجيرهم خارج وطنهم فلسطين مشروع بكل الوسائل" كما يروِّجون. من هنا، فإن ما يجري في غزة من حرب إبادة يستهدف المدنيين في الأساس بمن فيهم الأطفال والنساء والكبار دون تمييز، والقتل بالتجويع والأوبئة الفتاكة والتعطيش؛ حيث تجاوز عدد القتلى والجرحى والمفقودين تحت الأنقاض 10% من سكان غزة البالغ 2.2 مليون إنسان، إلى جانب تدمير الخدمات الصحية والتعليمية، والحصار الشامل وتدمير 90% مما هو قائم على الأرض وتحويل أكثرمن 90% من السكان إلى نازحين؛ أي تحويل قطاع غزة لأكبر مقبرة في العالم، وهو ما يتهدد وينتظر الضفة الغربية ضمن استراتيجية إسرائيلية متكاملة المراحل.
من الواضح أن اتفاقية "أوسلو" لم تكن لتؤدي إلى انسحاب إسرائيل من الأراضي المحتلة في 1967 بما فيها القدس المحتلة وإقامة دولة فلسطينيية مستقلة وذات سيادة على 18% من أرض فلسطين التاريخية. لكن ما هو واضح أن الحكومة الإسرائيلية الحالية ومن ومعها غالبية الإسرائيليين لا يؤمنون أصلًا بذلك، وأن مصير الفلسطينيين هو إما الموت أو التهجير لتحقيق يهودية الدولة الإسرائيلية الخالصة. ويتم التهجير بالإبادة الجماعية وقتل الجميع بمن فيهم الأطفال وحتى الأجنة في بطون أمهاتهم وفي المختبرات؛ باعتبارهم خطرًا مستقبليًا، فضلًا عن تعذيب الأسرى الفلسطينيين بما في ذلك اغتصاب النساء والرجال؛ من أجل بث الرعب في الشعب الفسطيني، إضافة لما ذكرناه من تحويل حياة الفلسطينيين إلى جحيم. ولا يتورع الإسرائيليون بالقول إن حربهم ضد الفلسطينيين "حرب وجود" ويبررون استخدام كافه الوسائل دون اعتبار لأية قواعد أخلاقية أو إنسانية أو دولية.
في هذا السياق، فقد نشرت إسرائيل قوة كبيرة على امتداد حدودها مع الأردن، رغم أن الأردن حريص على حراسة حدوده مع فلسطين المحتلة، وهو ما فُسِّر بأنَّه استباق ميداني لعملية تهجير واسعة للشعب الفلسطيني من الضفة الغربية إلى الأردن. ويتفق ذلك مع إصرار إسرائيل بمرابطة قواتها على امتداد حدود قطاع غزة مع مصر (محور فيلادلفيا) استعدادًا لتهجير فلسطيني غزة إلى صحراء سيناء المصرية.
التواطؤ الغربي والعجز العربي
تعود بنا الأوضاع والظروف والعوامل التي جرت فيها النكبة الأولى في 1947- 1948، إلى تفحُّص الأوضاع التي تجري فيها النكبة الحالية؛ حيث حظي الكيان الصهيوني خلال مرحلة تأسيسه وبعد قيام ما يُدعى بدولة إسرائيل بدعم لا محدود من الغرب، في ظل عجز عربي، وذلك على حساب شعب فلسطين الذي أضحى إما لاجئًا في وطنه وعلى امتداد العالم أو واقعًا تحت الاحتلال ضمن نظام الفصل العنصري. وقد حظيت حروب إسرائيل العدوانية ضد الشعب الفلسطيني والبلدان العربية المحيطة بالمشاركة والدعم الغربي لتمكينها من الانتصار وهزيمة العرب واحتلال أراضيهم، كما احتلت فلسطين، وتمكينها من رفض القرارات والشرعية الدولية المُطالبة بوضع حدٍ للاحتلال وتمكين الشعب الفلسطيني من تقرير مصيره رغم قصورها وظلمها.
وفي حرب الإبادة الإسرائيلية الحالية، فإنها تشمل- إضافة إلى فلسطين- حربًا ضد لبنان واعتداءات واغتيالات في سوريا واليمن وإيران والعراق، والمشاركة الغربية بقيادة أمريكا تجاوزت كل الحدود وأضحت شريكًا فعليًا في حرب الإبادة الإسرائيلية عسكريًا وسياسيًا واقتصاديًا ودبلوماسيًا. كما إن الغرب وفَّر الحصانة المطلقة لإسرائيل لعدم الانصياع للقانون الدولي؛ بما في ذلك القوانين المعنية بإدارة الحروب وحماية المدنيين. وفي الواقع فإنَّ الغرب وحلفاءه بقيادة أمريكا مكَّن إسرائيل من الاستمرار في حرب الإبادة ضد الشعب الفلسطيني والأطراف المساندة له، وقد مضى عليها أكثر من 10 أشهر وهي مستمرة حتى تُقرِّر إسرائيل وقفها.
الأخطر الآن اتساع نطاق الحرب لتشمل الضفة الغربية واحتمالية تحولها إلى حرب إقليمية كبرى.
الغرب وحلفاؤه بقيادة أمريكا عطّلوا تمامًا الآليات الدولية المعنية بالأمن والسلم الدوليين، ووقف الحروب ومنع العدوان، وفي مقدمتها مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة. كما عُطِّلَت المؤسسات القضائية الدولية، وأهمها محكمة العدل الدولية والمحكمة الجنائية الدولية لملاحقة إسرائيل وقادتها؛ بل إن أمريكا والغرب يعاقبون أي دولة تُحاوِل تفعيل القانون الدولي والمؤسسات الدولية لمحاسبة إسرائيل ودعم الشعب الفلسطيني، وبهذا فإنَّ هناك انصياعًا شبه عالمي وخضوعًا للإرادة الأمريكية والإسرائيلية لتهجير الشعب الفلسطيني ضمن مخطط "إسرائيل الكبرى".
أما الوجه الآخر لهذه الحرب، فهو العجز العربي؛ بل تواطؤ عدد من الدول العربية مع المخطط الأمريكي الإسرائيلي لإبادة المقاومة وإخضاع الشعب الفلسطيني وتهجيره. وتكمن المفارقة أنه خلال النكبة الأولى، كانت غالبية الدول العربية تحت الاحتلال أو الوصاية الاستعمارية الغربية، ورغم ذلك شاركت قوات ومتطوعون عرب في مقاومة قوات الاحتلال الصهيوني وحافظت على 18% من أرض فلسطين. أما الآن ورغم أن جميع الدول العربية مستقلة رسميًا، فإن أيًا منها لا يشارك في دعم المقاومة والشعب الفلسطيني في مواجهة حرب الإبادة الإسرائيلية الأمريكية.
بل العكس هو الصحيح؛ إذ إن إسرائيل تتلقى الإمدادات الاقتصادية وكسر الحصار من قبل عدة دول عربية، كما يشارك بعضها في القوة المشتركة التي تقودها أمريكا لحماية إسرائيل من الهجمات الجوية للقوى المساندة للشعب الفلسطيني، وخصوصًا المقاومة الإسلامية في لبنان. وهذه نتيجة منطقية لتطبيع دول عربية مع الكيان الصهيوني وخضوع غالبيتها لأمريكا؛ حيث تنتشر قواعدها وأساطيلها الحامية للكيان الصهيوني، وحيث تفتقد للاستقلال الحقيقي، كما إن هذه الدول تخلّت منذ زمن عن الالتزام بقضية فلسطين، ولم تعد إسرائيل عدوًا؛ بل صديقًا وشريكًا. وفي أحسن الأحوال فإن قضية فلسطين قضية إنسانية؛ حيث المطلوب تخفيف معاناتهم، وليس قضية شعب يُناضل من أجل استعادة وطنه من الاحتلال الاستيطاني الإسرائيلي.
هذا الموقف العربي العاجِز والمتواطئ، دفع بغالبية الدول الإسلامية والعالم الثالث إلى الاستنكاف عن أداء أي دور إيجابي لدعم الشعب الفلسطيني وإيقاف حرب الإبادة الإسرائيلية، ونستثني بضعة دول قامت بأعمال الإغاثة والدعم السياسي والدبلوماسي، وحتى الكبرى ذات المسؤولية الدولية مثل روسيا والصين، فقد اقتصر دورهما على الدبلوماسية.
وفي ظل هذه الأوضاع العربية والإقليمية والدولية، فإن إسرائيل في وضع مواتٍ للمضي قدمًا في مخططها بإلحاق نكبة ثانية بالشعب الفلسطيني وهزيمة كبرى بالعرب والإنسانية.
كما إن الاستراتيجة الإسرائيلية واستنادًا إلى الدعم والتواطؤ الغربي بقيادة أمريكا والعجز العربي والإسلامي، ستمضي بالحرب لأشهر مقبلة، وقد تتخللها هدن للإغاثة أو مواجهة الأوبئة مثل شلل الأطفال في غزة، ولاحقًا في الضفة الغربية، إلى جانب خوض مفاوضات مطاطة حول الأسرى، وغيرها، مما خبرناه منذ بدء حرب الإبادة.
إنَّ هدف هذه الحرب استكمال النكبة الأولى؛ أي تهجير معظم من بقي من الفلسطينيين في الضفة الغربية والقدس الشرقية وقطاع غزة، وسيتبع ذلك في نكبة ثالثة "عرب 1948".
في حين أن السبيل الوحيد لإيقاف هذه الحرب- ولو مؤقتًا- يتمثل في صمود المقاومة الفلسطينة وحلفائها، وتكبُّد إسرائيل خسائر بشرية ومادية لا تتحملها.
قد يقول البعض إن هذا الطرح مُتشائم ومحبط، لكن تمعنُّوا في مجريات الحرب التي لا سابق لها في وحشيتها وخسائرها قياسًا لمحدودية الشعب الفلسطيني عددًا وفلسطين مساحة، ودققوا في مواقف القيادات الإسرائيلية إلى جانب المواقف الرسمية والدعم والمشاركة الأمريكية والغربية لإسرائيل والشلل العربي والإسلامي، وسترون أن نكبة فلسطينية وشيكة الحدوث ما لم تتحرك الشعوب العربية وتتمرد على هذا الواقع وتساندها الشعوب الحرة على امتداد العالم.