قضية فلسطين في الحملات الانتخابية الأمريكية

 

عبد النبي العكري

تتزامن الحملات الانتخابية الأمريكية مع حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني في غزّة وباقي فلسطين المُحتلة؛ حيث ثمة أهمية استثنائية تكتسبها مواقف الحزبين الديمقراطي والجمهوري والمرشحيْن المتنافسين نائب الرئيس الحالي كمالا هاريس مرشحة الحزب الديمقراطي، والرئيس السابق دونالد ترمب عن الحزب الجمهوري، بالدرجة الأولى، وباقي مرشحي الحزبين للكونجرس بالدرجه الثانية.

الثوابت الأمريكية واللوبي الإسرائيلي

يعد دعم أمريكا للكيان الصهيوني والحركة الصهيونية الاستيطانية في فلسطين من ثوابت السياسة الأمريكية، وقد كان لأمريكا دور أساسي في قيام الكيان الصهيوني واستمراره وتوسعه على حساب فلسطين والعرب، وشاركت أمريكا في جميع حروب إسرائيل عسكريًا واقصاديًا وسياسيًا ودبلوماسيا، بحيث أطلق على إسرائيل حاملة الطائرات أو القاعدة الأمريكية المتقدمة في العالم العربي. إضافة إلى تلازم المصالح الصهيونية والأمريكية في الوطن العربي، هناك الدور الحاسم الذي تلعبه الحركة الصهيونية الأمريكية اليهودية واللوبي الإسرائيلي في استمرار هذه العلاقة وتعزيزها رغم ما تلحقه من خسائر هائلة بالشعب الأمريكي وإفقاد أمريكا لمصداقيتها في العالم كونها الدولة العظمى في العالم بما يتطلبه من مسؤولية دولية.

سباق الانتخابات والقضية الفلسطينية

يترتب على حملة الانتخابات الرئاسية والتنافس ما بين الحزبين الديمقراطي والجمهوري تحديد الفائزين في انتخابات الرئاسة والكونجرس (مجلس النواب بالكامل وثلث أعضاء مجلس الشيوخ) و11حاكم ولاية في 5 نوفمبر 2024. ورغم أن الاهتمام الأكبر يتركز على انتخابات الرئاسة، إلّا أن انتخابات الكونجرس مهمة أيضا لأنها ستحدد أغلبية أي من الحزبين في مجلسي الشيوخ والنواب في انسجام أو تعارض مع الرئيس المنتخب. ورغم أن القضايا الخارجية لها أهمية أكبر في سباق الانتخابات الرئاسية وبرامج المرشحين المتنافسين إلا أن لها أيضا أهمية في انتخابات الكونجرس (الشيوخ والنواب).

إنَّ ما يميز حملة الانتخابات هذه عما سبقها من حملات الانتخابات السابقة هو أنها تزامنت مع حرب الإبادة "الإسرائيلية" ضد الشعب الفلسطيني الأطول بكثير من حروب إسرائيل ضد الفلسطينيين والعرب والتي انطلقت مع طوفان الأقصى في 7 أكتوبر 2023 والمستمرة حتى الآن والمرجح استمرارها حتى ما بعد الانتخابات الأمريكية في 5 نوفمبر 2024 والتي لا سابق لها في وحشيتها وخسائرها البشرية والمادية قياسا بعدد إلسكان والمساحة الجغرافية لقطاع غزّة. وكذلك المشاركة الأمريكية في هذه الحرب الأكثر تورطًا وتواطؤا من الحروب السابقة. وهذا ما جعل موضوع المشاركة الأمريكية وتزعمها لتحالف غربي ودولي موضع صراع في المجتمع الأمريكي، وتولد عنه حركة احتجاجية واسعة هي الأكبر منذ حرب فيتنام في ستينيات القرن الماضي.

تتميز هذه الانتخابات بأنها قد تحدد الخصمان المتنافسان على الرئاسة مبكرا وحتى قبل أن تبدأ الحملات الانتخابية داخل كل حزب للتأهيل لترشح الحزب ثم التنافس ما بين مرشحي الحزبين. فبالرغم من خسارة دونالد ترمب لصالح جو بايدن في انتخابات 2020، إلا أنه لم يعترف بهزيمته واعتبرها انتخابات مزورة ولم يسلم بشرعية رئاسة بايدن وبالتالي اعتبره خصمه.كما أن ترمب ورغم خسارته فقد ظل القيادي للحزب الجمهوري دون منازع واعتبر مرشحاً طبيعياً في انتخابات 2024؛ حيث تغلب على منافسيه في الانتخابات التأهيلية بسهولة وقد دعموه لاحقًا.

أما خصمه بايدن فقد كان بديهيًا أن يكون الرئيس هو مرشح الحزب الديمقراطي حسب التقاليد الانتخابية الأمريكية. وهكذا لم يواجه بايدن منافسة تذكر. وحتى عندما اضطر بايدن أن ينسحب من سباق الرئاسة فقد خلفته نائبة الرئيس كمالا هاريس وهي شريكته في الحكم وما يترتب عليه. كما تشاركه في المواقف تجاه مختلف القضايا بما فيها السياسة الخارجية، لكنها بالتأكيد تتميز بالحيوية التي يفتقدها بايدن وتتباين معه نسبيًا في المواقف.

وهكذا فإن برنامج كل من الحزبين الجمهوري والديمقراطي وأجندة كل من المرشحين ترمب وخصمه بايدن ثم هارس محددة مسبقا إلى حد كبير، ولكن التطورات الداخلية المترتبة على هذه الحرب وخصوصا الحركة الاحتجاجية الواسعة ضد الحرب ودور أمريكا فيها والعبء المالي الكبير في تمويلها والحشد العسكري الأمريكي على حساب الانتشار دولياً وفقدان مصداقية قيادة أمريكا وغيرها أحدثت، تعديلات في هذه البرامج والمواقف.

وفي ظل هذا الصراع فقد مضت إسرائيل بعيدًا في حرب الإبادة غير عابئة باعتراضات أمريكا الشكلية ومشاريعها لوقف الحرب وتبادل الرهائن، كما أمعنت الحركة الصهيونية واللوبي "الإسرائيلي" بقيادة منظمة "آيباك" في التصدي للمرشحين ممن يعارضون الموقف "الإسرائيلي" والأمريكي ولو جزئياً وضخ أموال هائلة في تمويل مؤيدي إسرائيل والسياسة الأمريكية تجاهها. ويمكن القول إن الموقف من إسرائيل، وبالتالي فلسطين ليست قضية خارجية؛ بل قضية أمريكية محلية.

وبغض النظر عن التباينات المحدودة في برامج المرشحين ترمب وهاريس والحزبين الجمهوري والديمقراطي فإنهما متفقان على دعم إسرائيل وحربها الحالية بقوه حتى تحقيق كامل أهدافها بموجب "حق إسرائيل" في الدفاع عن نفسها، وأن أمريكا تضمن ذلك بكل الإمكانيات، وتضمن تفوقها عسكرياً على جميع جيرانها العرب وإيران. وإذا كان هناك خلافات مع إسرائيل فهي تكتيكية لا تمس جوهرالتحالف الاستراتيجي.

وقد اتضح هذا الإجماع لمؤسسة الحكم الأمريكية بمؤسساتها وحزبيها في الاستقبال غير المسبوق لأي زعيم أجنبي أو حتى رئيس أمريكي في الكونجرس لنتنياهو واجتماعاته مع الرئيس بايدن ومرشحي الرئاسة ترمب وهاريس والقيادات الأمريكية وهو يُملي السياسة والاستراتيجية التي يجب أن تتبعها أمريكا تبعًا لتصور إسرائيل؛ باعتبار "إسرائيل" أقوى وأقرب حليف إستراتيجي لأمريكا.

الجمهوريون وترمب

يتفاخر ترمب والحزب الجمهوري بأنه حقق لإسرائيل ما لم يحققه أي رئيس أمريكي سابق ومنه نقل السفارة الأمريكية للقدس كونها عاصمة لإسرائيل وبسط السيادة على الضفة الغربية وتهويدها وكذلك سيادتها على الجولان المحتل والاتفاق الإبراهيمي الذي فتح الأبواب مشرعة لتطبيع الدول العربية مع إسرائيل مع تطبيع أربع دول عربية وهي، الإمارات والبحرين والمغرب والسودان معها. وهو ما سعى ترمب له لاحقًا.

هناك أيضًا خاصية للحزب الجمهوري وهو تحوله لحزب يميني للأمريكيين البيض غالبا وبتأثير للعقيدة الإنجيلية المتصهينة وهو ما يحعل الحزب الجمهوري متشددا ومجمعا على دعمه لإسرائيل دون تحفظ.

بناءً على ذلك، فقد أقر المؤتمر الوطني الجمهوري في ميلواكي (أكبر مدن ولاية ويسكنسن الأمريكية) إلى جانب تثبيت ترشيح ترمب ونائبه جي دي فانس، برنامجه المستند على مشروع 2025 اليميني لموسسه هيريتج، بالبناء على ما أنجزه ترمب خلال رئاسته الأولى، بالضغط على الدول العربية والإسلامية للتطبيع مع إسرائيل مقابل استمرار حمايتهم. كما يؤيد ترمب "انهاء نتنياهو للحرب بسرعة" ودون أية اعتبارات للمذابح بحق المدنيين وحصارهم وتجويعهم، وكذلك توسعة الحرب لتشمل إيران ولبنان واليمن. ووعد بتشديد الحصار على إيران وإجراءات ضد من يعارض إسرائيل وسياسة أمريكا تجاهها.

في ذات الوقت، ينتقد ترمب ما يعتبره دعما أمريكيا مشروطا لإسرائيل من قبل إداره الرئيس بايدن، ويعد بتعظيم هذا الدعم وبدون أية قيود على إسرائيل. وبالمقابل فإن ترمب يؤيد إسرائيل في رفض حل الدولتين وتأييد الاستيطان والتهويد والسيادة الإسرائيلية على كامل فلسطين والأراضي العربية المُحتلة؛ بل ودعا ضمنا لضمها الأراضي العربية المحيطة بها باعتبار أن إسرائيل صغيرة المساحة قياسا بجيرانها من الدول العربية.

من هنا.. فإن نتنياهو لن يوقف الحرب حتى إعلان نتيجة انتخابات الرئاسة في 5 نوفمبر 2024 مع احتمال فوز ترمب، بالتالي المضي في مخططه بالمضي في الحرب وتوسيعها لحرب إقليمية بمشاركة أمريكا؛ بهدف تصفية المقاومة الفلسطينية والإسلامية وتهجير الفلسطينين في غزّة ولاحقًا الضفة الغربية والقدس الشرقية.

هاريس والحزب الديمقراطي

في تطور مفاجئ، اضطر بايدن للانسحاب من سباق الرئاسة تحت ضغط قيادات الحزب الديمقراطي لعدم أهليته وزكّى نائبته كمالا هاريس كمرشح للرئاسة، وهو ما تم تأكيده في مؤتمر الحزب في شيكاجو مؤخرا. فمن ناحية فإنها شريكته في الحكم ومجمل السياسات والقرارات بما فيها تلك المتعلقة بإسرائيل/ فلسطين وخصوصًا حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطين منذ 7 أكتوبر 2023 حتى الآن. كما إنها تشارك بايدن في برنامجه الانتخابي؛ فهي مرشحته كنائب للرئيس.لكنها تحاول التميز بعدما أضحت هي المرشح البديل للرئاسة. وتراجعت حالة الانقسام داخل الحزب الديمقراطي واكتسبت حملتها الانتخابية زخما قويا في ظل إجماع الحزب لترشحها والدعم المالي والجماهيري الكبير لها. كما إن خصوصية هاريس بالانتماء للعرق الآسيوي الأفريقي وكونها امرأة ذات تاريخ يتميز بالتغلب على الصعاب والإنجازات، التي حققتها واختيارها الموفق لنائبها تيم مالز فإنها تحاول أن تستجيب لتطلعات الحزب الديمقراطي وتركيبته العرقية والاجتماعية والسياسية المتنوعة.

في ذات الوقت، فقد شهدت الانتخابات التأهيلية لمرشح الرئاسة بايدن رفضًا لترشيحه في عدد من الولايات ذات الثقل الفلسطيني والعربي والإسلامي واليساري المعارض للسياسة الأمريكية وإسرائيل والمؤيد لفلسطين ووقف الحرب. واطلق عليهم "غير الملتزمين"، وقد تمثلوا بعشرات المندوبين داخل المؤتمر. وهذه إحدى نتائج الحركة الاحتجاجية الواسعة ضد سياسة الحكومة والحزب الديمقراطي وبرنامجه الانتخابي. لكن قيادة الحزب وحملة "هاريس/ مالز" لم تسمح لهذا التيار أن يعبر عن نفسه في المؤتمر بأي متحدث أو المشاركة في صياغة البرنامج الانتخابي.

بناءً على ذلك، فإنَّ برنامج "هاريس/ مالز" الانتخابي يؤكد على التحالف الاستراتيجي مع إسرائيل ودعمها في مجمل سياساتها الاستيطانية والتوسعية بكل الوسائل بما فيها الحروب العدوانية وآخرها حرب الإبادة الحالية.وفي ذات الوقت طرح مواقف شكلية مثل المطالبة بوقف الحرب الحالية وحل الدولتين ومعارضة الضم والاستيطان والتوسع، دون أن يؤثر ذلك على الدعم العسكري والاقتصادي والسياسي والدبلوماسي لإسرائيل، كما هو واضح في الحرب الحالية"وقد عبرت النائبة المعارضة إلهان عمر عن ذلك بقولها: "ان أمريكا القوة العظمى الأولى في العالم، ليس متواطئة فقط مع إسرائيل في حرب الإبادة ضد الفلسطينيين في غزّة، وإنما هي تهين نفسها وتخضع لإسرائيل التي ترفض مطلب أمريكا بوقف لإطلاق النار لاعتبارات إنسانية".

بالمقابل فإن هناك المؤسسة المُسيطرة في الحزب والشريكة مع مؤسسه الحزب الجمهوري في الحكم وتاثيرات اللوبي الإسرائيلي؛ بقياده "آيباك" وتمويلها الهائل للمرشحين والذي يلعب دورًا حاسمًا في استبعاد مرشحي الحزب المناهضين لهذه السياسات والتوجهات، ومنهم على سبيل المثال استبعاد المرشح النيابي عن نيويورك جمال بومان المؤيد لفلسطين لصالح الصهيوني حورج لاتيمار.

تقاطع برنامج الحزبين حول فلسطين/ إسرائيل

هناك تقاطعات جوهرية ما بين برنامجي المرشحين للرئاسة هاريس وترمب واستطرادًا الحزبين الديمقراطي والجمهوري تجاه القضية الفلسطينة، وتبعًا لذلك تجاه إسرائيل وكل تبعات ذلك، من صراع قائم منذ 1947 حتى الآن. ينطلق البرنامجان بالتحالف الاستراتيجي الأمريكي "الإسرائيلي" ودعم إسرائيل في برنامجها الاستيطاني التوسعي على حساب فلسطين وشعبها والأمة العربية ووحدتها الترابية وسيادتها، والتصدي الأمريكي الإسرائيلي لكل من يعارض هذا المخطط.

أما التباينات فتكمن في المقاربات السياسية التكتيكية ما بين المرشحين والحزبين. هاريس والحزب الديمقراطني يقرون لفظيًا ببعض القرارات الدولية المتعلقة بفلسطين/ إسرائيل والصراع العربي- الإسرائيلي وحاليًا يدعون لوقف لإطلاق النار وتبادل الأسرى ووضع حد للمذابح ومعاناة الشعب الفلسطيني في غزّة وعدم توسعة الحرب، لكنهم مستمرون في دعم إسرائيل بكل السبل. أما ترمب والحزب الجمهوري فلا يعيرون ذلك الاهتمام؛ بل ويطرح ترمب ضرورة حسم حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني بسرعة وإمكانية توسع إسرائيل على حساب البلدان العربية المجاورة.