صُوَر كَاذِبة!

 

فاطمة اليمانية

"الناسُ يقولون إنّ الصورَ لا تكذب... صوري تكذب!" ديفيد لاشابيل.

 

***

هل شعرت يومًا أنّك كنتَ تعيش على خديعة تقديس الأشياء العتيقة؟! وبأنّ كل قديمٍ يجب علينا الحفاظ عليه؟! رغم أنّ فائدته الحقيقية شبه معدومة! كل ما هنالك زحام وتكدّس لمقتنيات عفَى الزمنُ عليها! ولم تعد تثير رغبةَ أحدٍ في التحديق بها!

هذا ما شعرَت به، وهي تحملُ صندوقًا مليئًا بألبوماتِ صورٍ فوتوغرافية قديمة! تجاوزت عمرًا! ومعظم من كانوا في الصور، غادروا الدينا إلى الآخرة... تاركين خلفهم صورًا لو شاهدوها؛ لطالبوها بالتخلّص منها!

وهو ما ستقوم به... ستتخلّص من بعض الصورِ المهتَرئة! من صور جمعتها بصديقاتِ المصالحِ! اللواتي تطايرَن بانتهاء المصلحة! بصورٍ لا معنى لها! التقطتها وهي ترتدي نظارة شمسية كبيرة الحجم! أثارَت سخرية زميلاتها!

  • طه حسين! أم كلثوم!

فظّلت ترتديها ردَّا على السخرية، وقالت لهن:

  • قامتان عظيمتان أيّتها النَكِرات!

وصورة أخرى ارتدت فيها قلادة فضّية على شكل "جمجمة"! كانت تجوب بها ممرات الكليّة! ولم تكن تدرك بأنّها رمز من رموز "عبدة الشياطين"! كانت ترى فيها شيئًا مختلفًا! ولم تتقبل تعليق زميلتها عندما قالت لها:

  • كوني أنثى رقيقة! اخلعي هذه الجمجمة المقزّزة!
  • أنتِ المقززّة!

فقطعت علاقتها بها لعدّة شهور؛ لأنّها كانت تتحدث إليها بطريقة فظّة جافّة... ولو حدّثتها بطريقة ألطف؛ ربمّا استجابت لها... لكنّها في نهاية المطاف أدرَكت أنّها ترتدي رمزًا من رموزِ الموت والدمار والقتل، فخلعتها، واستبدلتها بقلادة أخرى.

***

  • ما الذي أثّر بها بحيث تعتقد بأنّ هذه الصور لا قيمة لها؟!
  • لا بدّ أنّه الزمن!

وكلما كبر المرء تغيّرت أفكاره وقناعاته، وأثبت لها الزمن بأنّ جميع العلاقات هشّة قابلة للتمزيق، كما تفعل هي الآن مع معظم الصور التي تتناولها يدها بالتمزيق، ولا يوجد من يثنيها عن ذلك، لأنّها الآن لوحدها مع صندوق الذكريات، ولا أحد غيرهما!

وببساطة ستتخلص من الصور المُحْرِجة!

رُغم أنّها كانت -سابقًا- تثير أُنسَها، ومشاعر الحنين للماضي! فما الذي تغيّر؟ حتّى تعتبرها عبئًا ثقيلًا على قلبها! وعلى وزن الصندوق الكرتونيّ الذي بالكادِ يمسك نفسه من التمزّق؟!

ربّما الوجع الذي تسرّب إليها عندما فتحت أحد ألبومات الصور القديمة للعائلة... وحدّقت في الصورة الأولى!

كانت صورة جماعية لها ولشقيقتيها الأكبر عمرًا...

أعادتها الصورة إلى أيام العيد، حين ارتدت الفتيات الثلاث نفس الملابس... نفس اللون... نفس التطريز... وطلب منهن والدهن الاصطفاف من الأكبر للأصغر... من جهة اليمين إلى اليسار! في خطٍ مستقيم... كما طالبهن بالتبسّم لعدسةِ الكاميرا! بعد التجّهم الذي لاحظه على وجوههن وهو يهمُّ بالتقاط صور العيد...

فابتَسَمْنَ على مَضَض... والتقط والدهنّ عددًا من الصور بابتسامة باهتة... ثم بنصف ابتسامة... ثم بابتسامة كاملة تشق وجوههن المتصنّعة... من الأذن إلى الأذن!

وفي حقيقة الأمر... أنّ شقيقتها الكبرى كانت تعاني أزمة اللون! عندما ارتدت ملابس العيد باللون القرمزي الذي تكرهه! لكنّ والدها أصرّ على اختيار اللون... وعلى أنْ تكون ملابس العيد باللون القرمزي!

أما شقيقتها الثانية، فكانت تكره الصور الجماعية، وطالبت والدها بأنْ يلتقط لها صورة مستقلّة بعيدًا عن شقيقتيها!

وكان هذا طبعها منذ طفولتها الأولى... ترغب بالاستقلال... وتكره التجمّعات... وإذا حدث واجتمع أطفال العائلة؛ فلا بد من حدوث مشكلة بينها وبين جميع الأطفال! وينتهي الأمر بإبقائها مع الكبار، ومنعها عن مخالطة أقرانِها!

أما هي...

فلم تبتسم؛ لأنّها كانت تشعر بالاضطّهاد!

لأنّ والدها أحضر ليلة العيد علبةً مخملية بها ثلاثة قلوب ذهبية، وطالبهن بالوقوف من الأكبر للأصغر، وقال لهنّ بأنّه سيوزع القلائد عليهن بالقرعة!

لكنّها لمحته، وهو يتحسس كلّ قلبٍ قبل إخراجه من العلبة! وليست القرعة سوى خديعة! فهو اشترى واختار، وقرّر لكل واحدة منهن ما يناسبها!

وبالتالي حصلت شقيقتها الكبرى على قلبٍ ذهبي على شكل زهرة مستديرة بخطوط متداخلة... كان تصميمًا جديدًا في ذلك الزمن... ولافتًا... فتناولته شقيقتها، وقبّلته على رأسه فرحًا.

ثم أخرج القلب الثاني لشقيقتها الثانية، وكان أيضًا جميلًا على شكل زهرة الياسمين؛ فتناولته، وطبعت قبلة على جبينِه، وأسرعت إلى أمّها تريها هدية والدها.

وكانت تعتقدُ أنّها ستحصل على قلبٍ أكثر جمالًا، لكنّ لحظات التخيّل كانت قصيرة جدًا... وأخرج لها والدها قلبًا مستديرًا مُصْمَطًا كُتِب في وسطه لفظ الجلالة!

شعرت لحظتها شعورًا غريبًا... عجزت عن التعبير عنه أمام هذا الوضع؟! فكيف ستعترض على قلبٍ كُتِب عليه (لفظ الجلالة)؟! كيف ستردُ على والدها بأنّها كانت تتمنى أنْ تحصل على قلبٍ على شكل زهرة، وبأنّ هذا القلب يشبه القلب الذي كان ترتديه جدّتها؟!

وعندما ندَهَ عليها؛ لتناول هديّتها، سألته:

  • لماذا لم نحصل جميعنا على زهرات؟!
  • أنتِ الأفضل... لديك اسم الجلالة...

فتناولت القلب، وطبعت قبلة على لفظ الجلالة... وابتعدت عن والدها باحثة عن جدّتها التي كانت ترتدي قلبًا مماثلًا؛ لأنّها ظنّت لوهلة بأنّ والدها اشترى هذا القلب من جدّتها؟!

وأرتها هدية والدها؛ فقالت لها جدّتها بأنّها حصلت على القلب الأجمل والأفضل... ويجب عليها أنْ تجيد التعامل معه... فلا تدخل به الحمام، ولا تلمسه ويديها متسّختين؛ لأنّه لفظ الجلالة.

وبأنّه سيحرسها من السحر والعين والشيطان...

لكنّها لم تقتنع... كانت تشعر بأنّه فرّق بينها وبين شقيقتيها... ثم سأَلت جدّتها:

  • لماذا اختار والدي أسماءً حديثة لشقيقاتي، واختار لي اسمًا قديمًا؟!
  • اسمك الأفضل... الأجمل... له قيمة في قلوب الجميع... والاسم الوحيد الذي لا يصيبه الهِرَم، ولا يتوقف المسلمون عن التسمّي به!

ثمّ تنهدَت وقالت لجدّتها:

  • تدافعين عن أبي! أليس كذلك؟

وأخبرتها بأنّه أحضر لشقيقتيها -منذ مدّة- دمى بشعرٍ ذهبي، بينما أحضر لها دمية بشعرٍ أسود اللون! وعندما ذهب إلى عمله؛ تناوَلت الدمية، وضربت رأسها على الأرض حتّى هشّمته!

صمتت جدّتها... وقالت لها:

  • سأحضر لكِ دمية جديدة، وقلبًا جديدًا؛ فلا تحزني!

وبالطبع لم تحضر لها جدّتها شيئًا، وانشغلت عنها بهموم الحياة ورتابتها، وربما نسيت أو تنَاسَت بسبب ازدياد أعداد الأحفاد، وتحمّل مسؤولية العائلة، وهمومها التي لا شك بأنّها كانت أكبر من قلبٍ ودمية!