أنا باحث.. وأبي مُسرَّح!

 

د. خالد الغيلاني

 

عبارة مؤلمة من الناحية الاجتماعية، مؤثرة من الناحية الاقتصادية، شديدة الوقع من الناحية الأمنية، واقعها مرير على الكثير من الأسر العمانية.

الاقتصاد عصب حياة المجتمعات، وأساس نهضتها وتقدمها، من خلاله تتحقق التنمية، وتتطور مسيرة البناء، ولتحقيق اقتصاد واعد مُنتج مستدام ينمو بشكل مطرد؛ لا بد من وجود خطط واضحة، واستراتيجيات محددة لتحقيق أهداف نمو الاقتصاد، ومع ذلك هناك عنصران هامان؛ أمان المجتمع واستقراره، وارتفاع معدلات دخل أفراده لتتم الدورة الاقتصادية بيسر وسهولة، وبمستويات عالية من النمو والأداء.

هي مُعادلة دقيقة وصعبة، لكنها ضرورية جدا، ومعينة بشكل كبير لجلب الاستثمارات، والاستفادة من رأس المال الأجنبي في تعزيز القدرة الشرائية التنافسية، ورفع مستوى التصنيفات الائتمانية للبلاد. وهذا لا يتحقق بأي حال من الأحوال مع ارتفاع أعداد الباحثين والمُسرَّحين.

والكثير يحفظ الحديث النبوي الشريف؛ الذي يقَول فيه رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ أَصْبَحَ مِنْكُمْ آمِنًا فِي سِرْبِهِ، مُعَافًى فِي جَسَدِهِ، عِنْدَهُ قُوتُ يَوْمِهِ، فَكَأَنَّمَا حِيزَتْ لَهُ الدُّنْيَا". رواه البخاري في "الأدب المفرد". وبالنظر للحديث نعلم أن تمام النعمة على الإنسان مرتبط بثلاثة أمور مكملة لبعضها، مُتصلة لا تنفصل أبداً؛ الصحة والعافية وسلامة الجسد، الرزق والطعام الحلال، وقبلهما الأمن في نفسه وأهله، فإن غاب عنصر اختلت العناصر الأخرى، وظهر أثر ذلك واضحًا ولو بعد حين.

وهنا استشهد بقول نفطوية:

إذا ما كساك الدهرُ ثوبَ مصحَّةٍ // ولم يخل من قوت يُحَلَّى ويَعذُب

فلا تغبطنّ المترَفين فإنِّه // على حسب ما يعطيهم الدهر يسلب

وعودة إلى موضوعنا بطبيعة الحال، فإنَّ زيادة أعداد الباحثين والآن المُسرَّحين من أعمالهم؛ راجعة إلى سياسات غير دقيقة، وحلول غير ناجعة، تتخذها جهات الاختصاص، دون دراسات واقعية، أو رؤى مُستقبلية، فلا عقود العمل المُوقتة أثمرت استقرارًا، ولا أنتجت استثمارًا، هي مثل علاج مؤقت يُخفف الألم ولا يزيل العلة، ولا تخفيض معدل سقف الأجور وعدم ربطه بالمؤهل ساعد في التقليل من الباحثين؛ بل أنتج مشكلة أكثر ضررًا وأثرًا وهي مشكلة المُسرَّحين التي جاءت قاصمة لظهر الأسر، جاعلة الكثير منهم عرضة للسجن، مترددًا على أروقة المحاكم، حاكمة على الأسر بالشتات وعدم الاستقرار، ضاربة للاقتصاد في مقتل.

ولعل من أهم أسباب هكذا حلول غير ذات جدوى، أو قرارات سرعان ما يظهر عوار اتخاذها، أن المختصين يعتبرون هذا شأنًا خاصًا بهم، وقرارًا خالصًا لهم، وفي حقيقة الأمر؛ ما هي إلّا قرارات كان الواجب أن تكون مشتركة جماعية، يسهم في صياغتها كل المعنيين وأصحاب العلاقة، تُدرَس من كل الجهات. عندها تتضح كل العوائق والنتائج، ويتم التقليل من كل الأضرار، والتخفيف من كل التحديات.

إلى كل مختص نحن أمام ملفين دقيقين يمسّان كل الوطن، ويهمان كل مواطن، فإلى فترة قريبة كان لا يخلو بيت من باحث على الأعم الأغلب، وكان الأب والأخ والزوج يعيل أسرته ولو بالقدر اليسير، واليوم غَدَا الولد باحثًا والأب مُسرَّحًا؛ حجر صلد يقع على الرقاب فيُدمي القلوب والأبدان.

وبالتالي فالمختص الذي لا يجد حلًا عليه أن يجتهد فإن عجز ترك الأمر لغيره، ولعل وعسى أن تأتي الحلول الناجعة القادرة على حلحلة هذه القضايا.

السؤال الذي يلح كثيرًا عليَّ في الطرح، يدعو للاستغراب تارة، ولعدم القدرة على الفهم تارة أخرى، إذا كانت أعداد الباحثين والمُسرَّحين، أقل وبشكل واضح من عدد الوافدين العاملين في القطاع الخاص، وفي وظائف تنفيذية وإشرافية مُتوسطة وعليا؛ فمَنْ أولى بالعمل العماني المستحق أم الوافد القادم من بعيد؟!

ألا يمكن من خلال إخضاع العُماني للتدريب والتأهيل أن يكون أكثر إنتاجًا وفاعلية؟ ألم تثبت الأيام قدرة كبيرة لأبناء عُمان على تحمل المشاق والبذل والعمل؟

أيها المسؤولون المختصون أصحاب القرارات، أنتم أمام مسؤولية عظيمة، وفي أعناقكم قسم واجب البر والأداء، أمانة تحملتم حملها أمام الله عز وجل، ويمين شديد أقسمتموه بين يدي مولانا السلطان، ولا مناص من إيجاد حلول واضحة دائمة لكل الباحثين والمسرحين، ونتيجة لذلك ينتعش الاقتصاد وتقوى أدواته، وترتفع معدلات الاستثمار وتنمو عوائده.

فالله الله في أبناء عمان، فلم يبقَ في قوس الصبر منزع، والواجب أحق أن يُقال فيُتبع.

حفظ الله تعالى بلادنا آمنة مطمئنة، سخاء رخاء، وحفظ الله مولانا السلطان المعظم مُجدِّدًا لنهضتنا، ورائدًا لمسيرتنا، وحقق لبني عُمان ما يرجون ويتمنون، وعسى أن يجد الباحثون والمُسرَّحون ما يضمن لهم الاستقرار والعيش الآمن والرخاء والازدهار المستدام.