رد جبهات المقاومة.. متى وكيف وأين؟

 

 

د. إسماعيل بن صالح الأغبري

 

حرب الاستخبارات العسكرية والتقنية والحرب النفسية والإعلامية بين ما يطلق عليه محور المقاومة الذي تتزعمه الجمهورية الإسلامية الإيرانية وإسرائيل، لم تتوقف وقد اشتد أوارها منذ السابع من أكتوبر عام 2023؛ إذ تمكنت حركة المقاومة الإسلامية "حماس" في غزة من توجيه ضربة موجعة إلى إسرائيل، حتى إن المراقبين والمحللين يكادون يجزمون أن إسرائيل لم تنزل بها نكسة أمنية واستخباراتية كالنكسة التي أصيبت بها في السابع من أكتوبر.

في العادة إسرائيل وحدها تقصف وتغير وتضرب وتغتال وتلاحق رؤوساء أحزاب ومنظمات وجماعات معادية لها حتى إلى شمال أفريقيا أو أدغالها ثم تعود طائراتها إلى قواعدها سالمة.

وكثيرًا ما نفذت عمليات استخباراتية ثم يعود المنفذون إلى إسرائيل دون أن يصيبهم خدش، فزرعت الرعب في كثير من الأنظمة والحكومات وهزمتهم نفسيًا، فآمنوا أن لا قوة جبارة تطيح بقوتها، وأن ليس من استخبارات قادرة على منافسة أجهزتها الأمنية، وأن يدها الطولى لا سبيل لجعلها قصيرة، خاصة وأنها تمتلك وتُصَنِّع أدق تقنيات التجسس التي تتسابق دول عربية لاقتنائها، إضافة إلى مقلاع داود والقبة الحديدية، فضلًا عن الحماية الأمريكية المضمونة من الحزبين الديمقراطي والجمهوري.

لقد ألقت إسرائيل الرعب في عدد من دول المنطقة، حتى بات الكثير يتودد إليها طوعًا أو كرهًا رغبة أو رهبة طمعًا أو اتقاءً لشر منها أو غضب أمريكي غربي لمن يغضبها والبعض يتقرب منها أو يزحف إليها رغبة في رضا الولايات المتحدة الأمريكية والتي لن ترضى إلّا عن إسرائيل.

السابع من أكتوبر حدث زلزل إسرائيل كما إنه حدث أسعد دون حد المعادين لإسرائيل، خاصة في العالم الإسلامي، ولعله أيضاً أسعد حكومات ضاقت ذرعاً بإسرائيل إلّا أنها لا تقوى على البوح بذلك لأسباب أمنية وسياسية واقتصادية وعلاقات معها دبلوماسية.

غير مستغرب أن تتحول إسرائيل بِقَضِّهًا وقَضِيْضِهَا كالثور الهائج أو الدب المجروح يجرف كل ما صادفه ويحرق كل ثابت ومتحرك، لا يعبأ بقيم الإنسانية ولا يلتفت إلى الحقوق والمواثيق الدولية، ولا يعير صرخات المنظمات الدولية كالأونروا اهتمامًا يذكر، ولا يلتفت إلى قوانين الصحافة وحق الصحفيين، وينتهك حق الطفولة والمرأة والإنسان والبيئة معا ولا تثير فيه محكمة العدل الدولية أو الجنايات الدولية قلقا لأسباب منها بطء تلك المؤسسات في إصدار حاسم يوجب وقف القتال أو إدانة صريحة بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أو التأخر في التنصيص على أسماء شخصيات إسرائلية لصيقة بجرائم الحرب وحرب الإبادة الجماعية مع رسوخ الدعم الغربي والأمريكي لإسرائيل.

إسرائيل قبل السابع من أكتوبر تكاد الدولة الوحيدة في هذا العالم غير معنية ولا مشمولة بوجوب تطبيق المعايير الدولية في كل شأن من شؤونها إنها حالة استثنائية مباركة من القوى الغربية.

لم تكتف إسرائيل بالحرق في غزة وصهر أهلها؛ بل بلغت لبنان حيث خصمها العتيد "حزب الله" على حدود فلسطين المحتلة، وبينه وبين إسرائيل صولات وجولات لا تنتهي ولكنها تهدأ أحيانًا ولو كانت في وضع يؤهلها على الرد على هجماته لما تحملت هذه الضربات اليومية منها واضطرار ما يقرب من مئة ألف مستوطن هجران منازلهم.

قامت إسرائيل باغتيالات عدة لقادة فلسطينيين؛ سواء من حماس أو الجهاد الإسلامي أو فتح أو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين أو الجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين أو غيرها من المنظمات، وقتلتهم في دول خليجية وأفريقية نزلوا بها ضيوفًا كما حاولت قتل خالد مشعل، وهو أحد أبرز رموز حركة حماس في الأردن.

أقدمت إسرائيل في 31/7/2024 على اغتيال رئيس المكتب السياسي في حماس إسماعيل هنية في طهران عقب مشاركته في تنصيب الرئيس الإيراني مسعود بزشكيان.

الاغتيال أحدث دويًا في الأوساط الرسمية قبل الشعبية وفي الدول الأخرى قبل إيران؛ ذلك أنه قائد سياسي، ورئيس لوفد التفاوض من أجل وقف إطلاق النار وتبادل إطلاق المحتجزين، وهو معدود من الحمائم في حركة حماس.

بالنسبة لإيران الدولة ومؤسساتها؛ فاغتياله في طهران عاصمة الدولة ومجمع مؤسساتها ومركز قراراتها ومنها إدارة الحكم وبها أجهزة الدولة حامية حماها ومعقل قوتها المادية والمعنوية، يعني ضربة مؤلمة لإيران معنوية وحسية.

لماذا اختارت إسرائيل طهران لاغتيال إسماعيل هنية ولم تختر أمكنة أخرى لفعل ذلك؟ يتردد الراحل على دول مختلفة إلّا أن هذه الدول باستثناء إيران لها علاقات دبلوماسية وغير دبلوماسية مع إسرائيل كما لها علاقات دبلوماسية مع الولايات المتحدة الأمريكية؛ فاغتيال إسماعيل هنية في دولة من تلك الدول يعني توترًا شديدًا بينها وبين إسرائيل، وكذلك سيؤدي إلى التخلي عن محاولة تقريب وجهات النظر بين المقاومة وإسرائيل، على أن إسرائيل أيضًا لم تغتل هنية في دول صديقة لأمريكا احترامًا منها لأمريكا، أما إيران فليس من علاقات بينها وبين إسرائيل؛ بل تكاد تتفرد إيران عن دول منظمة التعاون الإسلامي بأنها الوحيدة التي لا تعترف بإسرائيل دولة، وترى أن فلسطين كل فلسطين للفلسطينيين؛ لذلك فاغتياله في طهران لن يؤدي إلى قطع علاقات أو تخفيض التمثيل الدبلوماسي بينها وبين إيران لعدم وجود اعتراف من إيران بوجود إسرائيل.

اغتيال إسماعيل هنية في طهران لن يؤدي إلى إحراج أمريكا؛ فإيران ليس لها علاقات دبلوماسية مع أمريكا؛ بل العلاقات تشوبها المناكفات والملاسنات وأمريكا تفرض على الجمهورية الإسلامية عقوبات سياسية واقتصادية خانقة منذ عقود طويلة.

قصدت إسرائيل اغتيال الراحل في طهران رغبة منها في إدخال الرعب في نفوس جميع زعماء المقاومة في لبنان واليمن والعراق وفلسطين الذين يترددون على إيران طلبًا لدعمها الحسي والمعنوي بأنها قادرة على بلوغهم، خاصة وأنه كان يتردد بأن المقامة الفلسطينية تبحث عن مكان آخر للانطلاق منه للعمل، وإن كنت في شك من إمكانية اختيار المقاومة إيران مقرًا لأسباب مختلفة.

إن اختيار إسرائيل طهران للاغتيال يعكس رغبتها في إيصال رسائل إلى إيران بأنها هي التي اغتالت عددًا من علماء إيران في طهران من ذوي الصلة بالمفاعلات النووية.

يغمز البعض إيران باغتيال هنية فيها، وهذا نابع للأسف ليس عن تحليلات واقعية، وإنما عن عصبية مذهبية وقومية وخلافات سياسية مقيتة، وللأسف ضعاف الثقافة والبعيدون عن أروقة السياسة قد يصدقون هذه الأوهام!

إيران بينها وبين إسرائيل كسر عظم وتحد كبير في ساحات مختلفة ولا يختلف اثنان أنها داعمة لكل قوة ظاهرة معادية لإسرائيل وأن الوقت حرج بعد السابع من أكتوبر، فإما أن ينتصر حلفها وإما أن يخسر فكيف تضعف حلفها بيدها وتقطع أقدامها بمنشارها.

ترعرعت هذه الجبهات على عينها وأمدتها باعتراف المقاومة الفلسطينية بأنواع السلاح ودربتها على أنواع منها، لذا غمز إيران لمقتل هنية فيها مدفوع ذلك بنيران العصبية المذهبية والقومية وليس ناتج عن تفكير عقل.

هنية قد نزل بساحة المرشد الإيراني آية الله علي خامنئي، فهو في حماه ورعايته والاعتداء عليه اعتداء عليه، فكيف بإنسان يعتدي على ذاته أو كيف يعتدي أحد على من نزل ضيفًا عليه في مجلسه وعقر داره؟!

إسرائيل أرادت كسر هيبة المرشد والرئيس الإيراني الجديد معًا والحرس الثوري والاستخبارات الإيرانية، ولذلك فإنَّ غسل ما لحق بإيران لا يكون إلا بإيلام إسرائيل ألمًا شديدًا، خاصة وأن ثأر إيران قائم منذ زمن مع إسرائيل، كما إن جماعة "أنصار الله" في اليمن لهم ثأر معها ،خاصة بعد أن قصفت ميناء الحديدة؛ عصب اليمنيين ومورد الغذاء والدواء والكساء لهم.

أما "حزب الله" اللبناني، فإنه منذ ثمانينيات القرن العشرين الميلادي المنصرم الحرب بينه وبين إسرائيل سجال، خاصة وأن إسرائيل لم تلتزم بقرار 1701 وتُغير على لبنان بين الفينة والأخرى وترسل طائراتها مستبيحة أجواءه، وترصد فيه كل ثابت ومتحرك. وتوجت إسرائيل هذا الغليان من حزب الله عليها باغتيالها الساعد الأيمن ومهندس العمليات ضد إسرائيل وهو فؤاد شكر؛ فالضربة الموجهة إليه كأنها موجهة إلى ذات زعيم الحزب كالضربة الموجهة إلى إسماعيل هنية كأنها موجهة إلى المرشد الإيراني سماحة آية الله علي خامنئي.

يبدو أن الضربة الإيرانية لن تكون على منوال الرابع عشر من إبريل؛ بل ستكون تصفية لعدة حسابات واسترجاع لعدة اغتيالات قامت بها إسرائيل داخل إيران وأعلاها اغتيالها لإسماعيل هنية.

لعل جبهة المقاومة تدرس ردًا يردع إسرائيل حتى تقوم منها سنوات وسنوات، خاصة إذا تمكنت الأسلحة من بلوغ إسرائيل والقدرة على مجاوزة ما أعدته أمريكا والغرب وبعض دول المنطقة من منظومات اعتراضية.

لعل إيران ترى أن ما لحقها من إسرائيل عار لا يغسله إلّا عمل يؤدي إلى كسر إسرائيل كسرًا يمس بعمودها الفقري، على أن أمريكا أيضًا تستعد لحماية إسرائيل أكثر من المرة الأولى؛ فدول الغرب كافةً لن تدع إسرائيل تواجه الأخطار؛ فوجودها في هذا العالم مطلب غربي ويدعمها ليس فقط لضغط اللوبيات الصهيونية أو الجماعات اليهودية، ولكن عن قناعة غربية بلزوم وجود قوة في الشرق الأوسط متقدمة موالية له مزروعة وسط موج هادر من مليارين من المسلمين.

ولعل إيران أيضا بعد أن تم استهداف ساحتها تعيد النظر في عدد من خياراتها المتعلقة بامتلاك أسلحة غير تقليدية بعد أن تيقنت أن لا رادع لخصومها إلّا امتلاك قوة غير تقليدية.