د. صالح الفهدي
يبقى الأثر
قُلتُ لأحد رؤساء الوحدات السابقين في إحدى المناسبات الاجتماعية: الناس تذكرك بخير، يبقى الذكرُ والأثر والسيرة، وذلك حقَّا ما يبقى لأي رئيس وحدة، فإِما أن يكون أثره حميدًا بين النَّاس، وإِما أن يكون لا أثرَ له في محامِد الأعمال، ومحاسن الأفعال فلا يُذكرُ على الإِطلاق، وإِن ذُكر لا يذكرُ بخير!
صُنعُ الأَثر الطَّيبِ لا يتقنهُ أَيُّ رئيس وحدة وإنَّما يتقنهُ ذلك الرئيس المتحلِّي بصفات القيادة المُلهِمة، والأخلاق الحميدة، والصفات النبيلة، والقرارات الحكيمة، ذلك الذي يجعلُ لمرؤسيه قدرًا رفيعًا باعتبارهم بشرًا كرَّمهم الله، ثم لأنهم عِمادُ الوحدة التي يرأسها ويريدُ لها أن تحقق أهدافها التي وضعت لها، ذلك الذي يترفَّعُ عن مصالحهِ الشخصية مقابل مصلحة الوحدة، ويتنازلُ عن ما يفكِّرُ فيه لنفسه، مقابل ما يفكر فيه لصالح وحدته وموظفيها وأهدافها.
لقد رُبطت بعض الوحدات برؤساء مُعيَّنين يرأسونها، فلمَّا خلفهم رؤساء آخرون طُمسَ ذكرها وكأنها غير موجودةٍ على الإِطلاق، وما ذلك إلّا بسبب الأَثر البيِّنِ الذي ارتبط بالرئيس الذي قُرنت به الوحدة، وما قدَّمه للوحدة من عملٍ واضحٍ، وجُهدٍ بيِّنٍ، ومنجزاتٍ ماثلة للعيان، ولهذا ظلَّ اسمه يتردَّدُ في صدى أروقتها، وفي ألسنةِ موظفيها الذين تبقُّوا، بل حتى الذين التحقوا بعد رحيل الرئيس صاحب الأثر الحَسن من الوحدة يردِّدون اسمه.
سمعتُ في إحدى الوحدات اسمًا لرئيسٍ سابقٍ يُذكرُ بسبقِ مآثره الطيبة فيها وقد غادرها منذ سنوات، فنقلتُ ذلك إليه لأُبيِّنُ له أصداءَ الأَثر الذي كان بمثابة تَرِكَتِه الحقيقية في الوحدة، ونقلَ إليَّ موظَّفٌ في إحدى الوحدات ما قالهُ موظَّفون التحقوا بها بعد أحد أصحاب الأثر الحميدِ فيها وهم يتمنُّون أن لو عملوا تحتَ إِدارتهم، وكم من رؤساء رحلوا عن الحياةِ فبقيت آثارهم يذكرها النَّاس فيما بينهم، حتى وإِن لم يلتقوا بهم، فقد سمعنا عن رؤساءَ وحدات كانت آثارهم عظيمة، ومناقبهم كريمة، وهذا ما خلَّد ذكرهم، وأجرى محاسنهم على ألسن الناس، يقول الشاعر:
قد مات قومٌ وما ماتَتْ مكارمُهم // وعاش قومٌ وهُم في الناسِ أمواتُ
لا تزول الآثار؛ بل تبقى راسخةً في صحائفِ الأعمال، يقول الحقُّ سبحانه وتعالى: "إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ" [يس: 12].
وحينما زرتُ أحد المسؤولين الرفيعين تحدَّثَ عن قيمةِ الأَثر وهو ينظرُ إلى كرسيِّه فيقول: ذلك غير دائم، إنَّما الدائمُ هو الأثرُ الذي يتركهُ صاحبُ الكرسيِّ من بعده. هذا المسؤول كلَّما غادرَ منطقةً كان يتولَّى فيها منصبًا طالبَ أهلُ تلك المنطقة مسؤوله الأكبر بإِعادته، ورغم أنَّ الإِعادةَ نادرًا ما تتم إلّا أنَّ مسؤوله الأكبر أعادهُ لمنطقةٍ كان فيها مسؤولًا للأثر الحميدِ الذي تركهُ في تلك المنطقة وإلحاح الناس على إعادته!.
وعلى النقيضِ فقد رحل بعض المسؤولين فلم يتركوا أثرًا طيبًا يُذكرون به، بل أنهم تركوا كلمةً لا يودُّون سماعها، وهي من مثلِ ما قالهُ لي أحد الذين عملوا تحت إدارة رئيسٍ لا يعرفُ غير الزَّجر والنَّهر، والتوبيخِ واللوم، فلمَّا رحلَ عنها قال أغلبَ مرؤوسيه: لقد استرحنا منه، رغم أن رحيله كان أبديًّا!
إِن رئيس الوحدة الحكيم هو ذلك الذي يدعو بدعوة أبي الأنبياء إبراهيم عليه السلام بقوله كما جاءَ في مُحكم الذكر: "وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ" [الشعراء: 84] والذكرُ الحسن لا يأتي إلا من الأثرِ الحَسن، وهذا لا يكونُ إلا بصالح الأعمال، وجميل الأَقوال، وكريم المآثر.
ما قيمةُ أَيَّ رئيسٍ إن لم يكن له أثرٌ حميدٌ يُذكرُ به، فالرافعي يقول: "إذا لم تزد شيئًا على الحياة، كنتَ زائدًا عليها"، إنه يكونُ إِذًا كالغُبارِ الذي تطيرُ به الريحُ فلا يبقى أثرًا من بعده، ولا رسمًا يدلُّ عليه، وهذا ما يُشهدُ في وحدةٍ ما إذ يتعاقبُ عليها عددٌ من الرؤساء ثم يُذكرُ واحدٌ او اثنانِ منهم أصحابَ الأَثر الراسخِ ولا يكون ذلك الأثر إلّا الحَسن، الطيب.
هكذا يكون الأَثرُ الخالد تركةً لرئيس وحدةٍ، ترك الوحدة ولكنه أبقى مآثرهُ، ومحاسنه، ومكارمه، فلم يرحل في الحقيقةِ بل رسَّخَ وجوده في الوحدةِ وفي خارجها وإن تعاقبَ من يخلفه من بعده على ذلك الكرسيِّ غير الدائم.