الباحثون عن عمل.. جزء من المجتمع

 

 

محمد بن حمد البادي

Mohd.albadi1@moe.om

الإنسان كائن فطري؛ جُبِل على الدفاع عن أساسيات حياته: الغذاء، والكساء، والمسكن، والعيش الكريم، ومن هذا المنطلق، وباعتبار أن الوظيفة هي الجسر الموصل لهذه الأساسيات عند الغالبية؛ فإنَّ قضية الباحثين عن عمل لا تزال تستأثر بالنصيب الأوفر من النقاش في أغلب المجالس والمحافل، وأفردت لها مساحات واسعة في وسائل الإعلام المختلفة تعريفاً وتحليلاً وتنظيراً وتمحيصاً، ودخلت المنصات الاخبارية ووسائل التواصل الاجتماعي باختلاف مسمياتها على الخط، كلٌّ يدلو بدلوه في هذه القضية، وكلٌّ يعرفها حسب منظوره، وكلٌّ يعدد أسبابها وأبعادها حسب قناعته، وكلٌّ يطرح الحلول لمعالجتها على طريقته، وبين هذا وذاك تقع وزارة العمل في الواجهة الرئيسية بشكلٍ مباشرٍ؛ فالرأي العام يجمع رأيه على أنها السبب الرئيسي في تفاقم هذه القضية وعدم السعي الجاد لإيجاد الحلول المناسبة لها.

ربما يتفق الجميع على أن قضية الباحثين عن عمل ليست وليدة اللحظة، بل أنها شغلت الرأي العام وصناع القرار لعدة عقود من عمر النهضة المباركة، ولا يزال السياسيون والاقتصاديون وأرباب الأعمال والمثقفون والأدباء والباحثون يولونها الكثير من الاهتمام، بالتشريع والدراسة والاستدلال والاستنتاج والبحث هنا وهناك لعلنا نجد الفانوس السحري الذي نمسح عليه فيطل علينا المارد العملاق برأسه ليهدينا حلاً ذهبياً لهذه القضية.

كلُّ الجهود والخطط والإستراتيجيات لم تفلح في إيجاد حل جذري يزيح المسببات التي تقف حجر عثرة نحو المضي قدماً في توظيف الشباب العماني في القطاعين العام والخاص، أو على أقل تقدير يعطينا بصيصاً من النور بتقليص عدد الباحثين عن عمل الذي يتزايد نهاية كل عام دراسي أو أكاديمي ليدخل خرِّيجو مؤسساتنا التعليمية في نفقٍ طويلٍ ليس له نهاية؛ بحثاً عن بارقة أمل في مستقبل ضبابي نحو التوظيف، إلا بعضاً من الحلول الآنية الخجولة التي لا تسمن ولا تغني من جوع، كجرعات مسكنة للألم، أو ردة فعل خاطفة لتهدئة الرأي العام؛ لأن هذه الجهود أساساً لا تستند إلى واقع صلب أو رؤية واضحة، أو منهجية صحيحة، أو خطة بعيدة المدى للحد من تزايد عدد الباحثين الذي يربو على مائة ألف باحث كما صرحت به وزارة العمل مؤخراً؛ قبيل نهاية العام الدراسي أو الأكاديمي 2023/2024م؛ الذي انطوت صفحته قبل أيام، ليزداد العدد؛ وبالتالي تزيد سنوات انتظار الوظيفة وتتضاعف معاناة كل الباحثين عن عمل.

إنَّ حل ملف الباحثين عن عمل لن يأتي إلا من خلال الشراكة الوطنية المتكاملة التي أساسها الشفافية والمصارحة، والحوار الإيجابي والنقاش البناء والأسلوب المتزن بعيدا عن المبالغة والتضخيم بين جميع الأطراف ذات العلاقة بهذا الملف؛ وبالتالي يتحمل كل طرف مسؤوليته بشجاعة وإخلاص وحسن نية.

نحن اليوم في أمسِّ الحاجة لحوار وطني مبنى على أسس منطقية لتغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الشخصية التي ترى الأمور بمنظور ضيق، حوار وطني يوفر حلول مستدامة لهذه القضية باعتبارها قضية وطنية ذات أولوية قصوى؛ بعيداً عن كيل الاتهامات حول من المسؤول عن ازدياد حجم كرة الثلج.

يجب أن نتحلى بالجرأة والرغبة الصادقة والعزيمة القوية لحل هذا الملف، وذلك من خلال تبني إستراتيجيات واضحة، وخطط قابلة للتنفيذ، مع دعمها بالتشريعات اللازمة التي تنظم عملها وتسهل أداء مهامها لتكون النتائج مرضية للجميع، ولتكن نقطة الانطلاق من خلال تدريب الشباب العماني على رأس العمل المقرون بالتوظيف لإكسابهم المهارات اللازمة لكل وظيفة على حدة ثم بعدها نأتي إلى الإحلال الممنهج في كافة القطاعات كنقطة تالية؛ كما أنه لا بد من تحديث قانون العمل ليتضمن بنوداً للإحلال في القطاع العام بنسبة 100%، أما القطاع الخاص فيجب مراجعة ملف الباحثين عن عمل بحيث يكون التعمين إجباريًّا للمهن التي لا تتطلب خبرة فائقة، على أن تقدم تسهيلات للشركات والمؤسسات التي تلتزم بالتعمين وفق  نسب واشتراطات معينة، وأيضاً تمنح إعفاءات وحوافز ومكافآت وأولوية في إسناد المناقصات والمشاريع الوطنية.

إنَّ الإنسان العماني سيبقى دائما يُمثل حجر الزاوية في المسيرة التنموية لهذا الوطن، فجميع المؤشرات التاريخية تدل على أن لديه القدرة الفائقة على بناء بلده بنفسه، ولم يسجل التاريخ يوماً أن العماني كان متوانياً أو عاجزاً أو متكاسلاً عن العمل، فهو الذي بنى القلاع والحصون والأبراج بهندسة فريدة، وهو الذي حرث وزرع وحصد وشق الأفلاج في مسارات صخرية ليروي الأرض، وهو الذي بنى السفن التي مخرت عباب البحار ليصل بها إلى بلدان وأقاليم جديدة لينشئ فيها مراكز عالمية فتحت آفاقاً رحبة للتبادل التجاري والعلمي والمعرفي، وحافظ على أمن وسيادة وطنه مئات بل آلاف السنين ليكون هذا الوطن قبلة العالم حين ينشد السلام.

 وما نعيشه في الوقت الحالي من استقرار سياسي ونمو اقتصادي وتماسك اجتماعي ورصيد علمي ومعرفي ووحدة وإلفة مجتمعية؛ ما هو إلا إحدى نتاجات هذا الإرث الأصيل الذي صنعه أجدادنا ليكون جبلاً راسخا نستند عليه حين تهب الرياح الهوجاء، ونرى بكل فخرٍ واعتزازٍ السفينة العمانية تمخر عباب بحارٍ مليئة بالأمواج العاتية من دون أن ينكسر لها صارٍ، كل ذلك من فضل الله علينا؛ ثم بفضل القيادة الحكيمة من لدن جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم ـ حفظه الله ورعاه.

وفي ختام القول.. إنَّ الله قد حبا هذا البلد الطيب خيرات وفيرة في برها وبحرها وسهولها وجبالها، وثروات هائلة في شتى القطاعات (النفط والغاز، والسياحة، والتعدين، والثروة الحيوانية والزراعية والسمكية)، التي لو وجدت عقولاً مبدعة تستغلها بالشكل الصحيح لقامت عليها صناعات متعددة كفيلة بفتح مئات الآلاف من الفرص الوظيفية، فقط أطلقوا العنان للشباب العماني؛ الذين نعتبرهم ثروة الوطن التي لا تنضب، اتركوا لهم فرص استخراج هذه الثروات من مكامنها، افتحوا لهم الأبواب، خذوا بأيديهم توجيهاً وإرشاداً، وأخرجوهم للأضواء؛ قدموا لهم الدعم والتحفيز والتشجيع، أعينوا كل من يملك المهارة والفكر والعلم  ليكونوا مصدر إنارة وحضارة وإبداع، ليخلقوا فرصاً مستمرة للعمل لهم وللأجيال القادمة.