إيلان بابيه وتحدي "فكرة إسرائيل" (1-3)

 

 

د. هيثم مزاحم *

المؤرِّخ الإسرائيلي إيلان بابيه معارض للصهيونية، وقد انتقل إلى بريطانيا منذ فترة طويلة وقام في كتابه "التطهير العرقي لفلسطين" بتفنيد فكرة "حرب الاستقلال" الإسرائيلية، وأثبت أنها لم تكن أكثر من عملية تطهير عرقي تتّسق مع مسمّى النكبة الذي يستعمله الفلسطينيون.

في كتابه "فكرة إسرائيل.. تاريخ السلطة والمعرفة"، يبحث بابيه في جذور التناقض بين فكرة إسرائيل وبين التاريخ والواقع، وذلك بشكل عميق ساخر، ليبرهن أن إسرائيل فشلت في تسويق نفسها أمام العالم كفكرة إنسانية طبيعية.

ويقول بابيه إنَّ فكرة الكتاب جاءته بداية بإلهام مصدره المفكّر الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، الذي أكد في مقالة له في العام 1983 على أنه لا بدّ للرواية الفلسطينية أن تُحكى. ويوضح أن هدفه هو تحليل مواقف أولئك الإسرائيليين الذين ينظرون بعين النقد إلى فكرة إسرائيل وتحوم في أذهانهم شكوك جديّة حولها.

وحين تصاعد تحدّي فكرة إسرائيل من الداخل، فإن ذلك كان يعني أن النموذج المثالي للصهيونية قد أعيد النظر فيه وأُخذ على أنه أيديولوجيا، وصار من الممكن إخضاعه للتقييم النقدي. وهذا ما جرى بالتحديد مع مجموعة من الإسرائيليين خلال التسعينات من القرن العشرين، فيما يميل بابيه إلى وصفها بأنه اللحظة ما بعد الصهيونية في إسرائيل.

كان تركيز مجموعة المنتقدين هؤلاء مُنصبًّا على أصول الفكرة، وذلك من أجل التحقق من وضعها وتفسيرها في تلك اللحظة. لكن ما كاد العقد ينقضي حتى وُصفت هذه الحركة من قِبل "الكيان" وأطياف واسعة من الشعب الإسرائيلي اليهودي بأنها خطيرة ومدمّرة، وأن من شأنها لو استمرّت أن تنتزع عن إسرائيل شرعيتها الدولية وتهدّم أساسها الأخلاقي. وهكذا صارت ما بعد الصهيونية حركة معادية للسامية في نظر مُخالفيها، وشهد العام 2000 هزيمتها واختفاءها شبه التام.

ويسلِّط كتاب بابيه الضوء على الرحلة الفكرية والبحثية لهؤلاء المؤرّخين، ويتتبّع مسارها من بدايتها إلى نهايتها، والتي انضمّ إلى قافلتها عشرات من الأكاديميين وعدد من الصحافيين والفنّانين الذين غاصوا في السجلّات الأرشيفية الحكومية والخاصة، وأصغوا لأوّل مرّة في حياتهم إلى أشخاص يعدّون أنفسهم ضحايا للصهيونية. لقد ألّفوا كتباً وكتبوا مقالات وأنتجوا أفلاماً وكتبوا أشعاراً وروايات، وكان المشترك فيما بينهم هو التاريخ بما هو إعادة تقييم للماضي لغايات فهم الحاضر.

ويرى الكاتب أنه تبيّن في النهاية أن فكرة إسرائيل كانت أكثر قوّة ممّن تحدّوها، ولم تكن تلك القوّة نابعة من قسر أو ترهيب بقدر ما اكتسبت شرعيتها من القبول بها كأمر واقع. 

في القسم الأوّل من الكتاب، بعنوان "فكرة إسرائيل بين الدرس الأكاديمي والسرد الخيالي"، يبيّن بابيه فكرة إسرائيل في الإنتاج الأدبي الصهيوني السائد، وكيف صُوّرت على أنها المشروع المثالي والأكثر نجاحاً للحداثة والتنوير. وعليه، فإن عدم القبول بتلك الصورة لم يكن يعني معارضة السرديّة الوطنية وحسب، بل كان يعني معارضة سرديّة تمثّل النموذج الأمثل للتميّز والفرادة. لذلك كان تحدّي فكرة إسرائيل يستلزم أن يقوم المرء بادّعاء أن الحقائق على أرض الواقع لا تتوافق مع الفكرة التي يحتفي بها أصحابها، أو أن يصل إلى فهم أفضل للطريقة التي تمّ بها استغلال تلك الحقائق ذاتها لإنتاج سرديّات مختلفة كتلك التي شكّلها الصهاينة من جهة، والتي شكّلها الفلسطينيون من الجهة المقابلة.

إن السرديّة التاريخية التي يضعها الجهاز الأكاديمي تصبح الأداة الأساسية لبناء الذاكرة القومية الجمعية وترسيخها. هذه السرديّة المعروفة -بحسب زعمهم- قد "أعادت تشكيل الصهيونية كحركة قومية جلبت التحديث والتقدم إلى فلسطين البدائية، وجعلت "الصحراء جنّة"، وأتت بأحدث تقنيّات الزراعة والصناعة لنفع العرب واليهود على السواء؛ أما مقاومة الصهيونية، فلم تكن سوى مزيج من التطرّف الإسلامي والاستعمار الإنجليزي المحابي للعرب وشيء من التقاليد المحليّة التي تشجّع على العنف السياسي".

يقول المؤلّف إنَّ حركة التأريخ الصهيونية دأبت في بحوثها الأكاديمية إلى افتراض أن مقاومة الفلسطينيين للوجود الصهيوني في فلسطين هي ممارسة للإرهاب. وبدأ المؤرّخون الصهاينة بالبحث عن أوّل ضحايا هذا العنف الفلسطيني؛ وهو كان حاخاماً وصل في العام 1811 للحجّ إلى القدس. ورغم أنه قُتِل جرّاء خلاف على مواد للبناء في القدس عام 1851، إلاّ أن قصّته "صُهينت" على يد المؤرّخين الإسرائيليين ووضِع على رأس قائمة في نصب تذكاري لضحايا الإرهاب موجود في مدينة تل أبيب.

كان الحاج أمين الحسيني بمثابة قائد للفلسطينيين أثناء حكم الانتداب البريطاني، وقد وُصف "بالإرهابي" حين أخذت التظاهرات الفلسطينية تحت قيادته شكلاً أكثر تنظيماً (أثناء الثورة العربية الكبرى- 1936). أما رأس "الإرهاب" الفلسطيني خلال فترة الانتداب، بحسب المؤرّخين الإسرائيليين أيضاً، فكان عزّ الدين القسّام، والذي نشط في ثلاثينات القرن العشرين.

كما عدَّ المؤرخون الصهاينة الرفض الفلسطيني لقرار التقسيم الصادر عن الأمم المتحدة في 20 نوفمبر 1947، "فعلاً إرهابياً فلسطينياً، وذا طبيعة إبادية كذلك".

وبعد احتلال إسرائيل للضفة الغربية وقطاع غزة في العام 1967، وبداية الكفاح الفلسطيني المسلّح لتحرير فلسطين، بمختلف أشكاله، وأهمها حرب العصابات، توسّعت النظرة الإسرائيلية "للإرهاب الفلسطيني" لتشمل أيّ شكل من أشكال المقاومة، سواء ضدّ جيش الاحتلال الإسرائيلي أو المستوطنين أو الأهداف "المدنية" داخل إسرائيل.

وهكذا، كانت الرؤية الأكاديمية للمؤرّخين الإسرائيليين متطابقة نسبياً مع رؤية السياسيين والعسكريين للأقليّة الفلسطينية في إسرائيل، باعتبارهم "طابوراً خامساً" وخطراً أمنياً داهماً، خاصة في مرحلة ما بعد قيام "الدولة" عام 1948.

وفي المقابل، اقترح مفكّرو ما بعد الصهيونية قلباً كاملاً للصورة الشائعة عن الفلسطينيين وفلسطين في الخطاب اليهودي الإسرائيلي، وارتأوا استبدال صورة الفلسطيني الشرّير بصورة الفلسطيني الضحيّة بينما يصبح الصهيوني مضطهِداً وجانياً.

ويقول بابيه إن غياب أي ذكر للمأساة الفلسطينية في كتب التاريخ الإسرائيلية كان مؤشراً لنظرة استشرافية إسرائيلية أكثر شمولاً. وهذه النظرة الأحاديّة والقائمة على خلق الصور النمطية تجلّت صوتاً وصورة؛ في الكتب والمؤلّفات التاريخية للمؤرّخين الإسرائيليين التقليديين، كما في الأفلام السينمائية والوثائقية التي تمّ إنتاجها حول أسباب الصراع مع الفلسطينيين وأحداث العام 1948، والحق التاريخي المزعوم لليهود في فلسطين.

 

في الحلقة الثانية "ما بعد الصهيونية في إسرائيل".

 

*رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية