قصة الوادي الصغير (4)

 

 حمد الناصري

بعد أيام قليلة من بيان كبير الغُرباء في اجتماعه السري وإعلانه لخطته الاستراتيجية في الوادي الصغير وحي المالح.. عقد كبير تجار حي المالح اجتماعاً مُوسّعاً مع أصحابه من رجال حيّ المالح وبعض من شُخوص الجوار، حضرهُ كثير من الرجال المُهتمين بتجارة التمر والعسل والملح وصرّح " فَلُّوع" كبير تجار حي المالح قائلا:

ـ التجارة مع الغُرباء مُفيدة، وتمنحنا تنوعًا في البضائع، حتى وإنْ تعارضت مع بعض من قيم الوادي الصغير، فلهم قِيَمهم و أعمالهم وتجارتهم ولنا قِيَمنا وتجارتنا بأيدينا ولا حقّ لأحد علينا .. لا ننشغل بمشاكلهم ولا ينشغلون بنا، وقد سمعت أقوال كثير من رجال الوادي وآرائهم مُثبّطة ، فإنْ نُعْرِض عنها فذلك هو الخير.

   وما يَهُمّني قوله لكم، أننا قررنا تَمْتِين مصالحنا مع الغُرباء ، فالغُرباء همّهم المصالح المُشتركة التي تقوم على المنافع وعلى التنويع وفي كُلّ منهما رُبْح مُيَسّر ، وتهمّنا زيادة أرباحنا من تجارة التمر والعسل والملح والفحم وتوسيع نطاقها وإنتاجنا يتزايد يوماً بعد يوم، فقد شرعوا بتنويع المَحاصيل الإنتاجية وإنشاء مخازن واسعة، وهو ما يدلّ على أنّ اهتماماتهم لم تقتصر يوماً على المُبادلات النفعية فقط ولكنها مَبْنية على مصالح ومَنافع بعيدة الأجل تخدم بعضها البعض، وكلانا يعمل على تَقويتها ، نشتري منهم ما نحتاجه ونبيع لهم ما يحتاجونه.. وفُرص كتلك لا تُعوّض، وستزداد التجارة وتنمو الأموال وتتنوّع المحاصيل ويرتفع المكسب، وينصبّ ذلك كله في مصلحة "سيح المالح المُتحد".

      وليس لأحد الحق، في مُنازعتنا في دارنا وفي أرضنا وفي قُرانا أو في جَمْعْنا هذا، فالسيح المُتحد هو مكاننا وسنعمل على توسعته، وحاراتنا المُشتتة أصبحتْ كتلة مُوحّدة، بعيداً عن الوادي الصغير والقُرى التي باتت تُعرف باسمه؛

ولن نَسمح لِمُشكّك أو مُرجف أنْ يُثَبّطنا أو أنْ يَفُتّ من عضدنا أو يَضْعفنا ويُفزعنا ولنْ يستطع أحداً أنْ يٌثنينا عن مُتّحدنا حتى ولو تعلّق الأمر بـحفيد الجد الأعلى، فقِيَمنا التي نُؤمن بها تتناسب مع قيَم التوافق التي آمنا بها ومُجتمع الوادي له شأنه وما يَتناسب مع منافعه ولهم الحقّ فيما يُؤمنون به لا نتدخّل في شأنهم ولا يتدخلون في شؤوننا.؛

فإنْ اعترضوا على قيام "مُتّحد سيح المالح" فسيَظلمون استقلال وسيادة حارات عَشْر برجالها ونسائها وصِبْيانها وإنْ أرادوا الوقوف في طريقنا بصلابة، فسيكون علينا  مُقاومة غرورهم، والتصدّي لِعَجرفتهم، إيماناً مِنّا بسيادتنا على أرضنا ورمالنا.. وإنْ هُم تمادوا وأغلقوا علينا مَنفذ البحر فعندئذ يكون قرار التقارب مع الغُرباء صائباً لا رجعة فيه.. فالمُتحد مشروع كبير والمُؤتلف هدف وغاية المُتحد، فالقِيَم والمصالح المشتركة تُعزز روابط التعايش الإنساني وتُساعد على تفاهم مُستدام بين الحارات العشرة المُتحدة.

 

نهض رجل من وسط المُجتمعين وقال مُؤيدًا :

 

ـ أنت سيدنا ونحن معك، و نُبارك لأنفسنا وأهلنا الجهود الساعية إلى استقلالية الحيّ عن تبعيّة الوادي، ونُبارك للزعيم الراشد بالتغيير الجديد إلى " سيح المالح المُتحد" والمُسمى يبدو كبيراً بقيادة الزعيم "فلوع" والحارات العَشر انضمّت تحت ذلك اللواء المُتحد وكما يبدو بأنّ الاسم الجديد بَهِيّاً بالتغيير الجديد وزاهياً بقيادة "فلوع" وذلك ما نستحقّ.؛

 

***

 

 

نظر" فَلّوع " كبير تجار حيّ المالح يميناً ويساراً.. يقرأ الوجوه المُتحلّقة حوله، وقد اشتدّ حُزنها، واجمة خالية من التعابير المُطمئنة، مُكفهرة، لا يبدو عليها الرّضا.. وكان من بين أؤلئك المُجتمعين رجل يُحدثهم، فأخذ يستمع إلى حديثه بإهتمام:

 

ـ أيها الناس، إنّا نُشيد بهذا التحوّل النافع، للحيّ، وما أجمع عليه الرجال من مُسمّى جديد، مُختصر للحارات العشرة في مُسمى واحد " سيح المالح المُتحد" ذلك الاسم الجميل، النابع من التضامن والتعاضد بين رجال الحارات وأنّ إستمرار تجارتنا تعني استمرار تنميتها وازدهارها، ولا حرج على جُموع رجالنا تقويض ما يُزعج مُتّحدهم، سائرين بقوة وشُموخ لإجْتثاث ما تصدّعت به رؤوسنا، من أفكار جامدة وطوال سِنين من الركود إلى أنْ بارتْ تجارتنا وتناقصت أرزاقنا.

 

  ورغم أننا صَبرنا وتحمّلنا الفاقة والفقر، ولكن لا تزال هناك حقائق وخفايا ومُسبّبات نعلم بعضها ولا نَعلم أكثرها، فما أكثر الناس الذين يتحدّثون عمّا تنطوي عليه تلك الخفايا والسرائر وما أقلّ مَن يُدركونها حقيقة .. منها تبعيّتنا لرجال الوادي الصغير وارتباط تاريخنا بالقرية الأعلى وغيرها من إرهاصات ومُتعلقات قديمة وكأننا من المَغضوب عليهم وما تلك الأفعال المُشينة إلاّ خفايا مَطبّات، جُعِلت لعرقلة قيام مُتحدنا، وإنّا نُرجّح القول كرجال أوفياء للمُتحد، بأنّنا نُدرك عواقب تلك الارهاصات كظاهرة أوجدها الغُرباء لشقّ صَفّنا وقطع الطريق على إئتلافنا.

 

ونحن سائرون ولن نتوقف، إظهاراً لِقيَم المُتحد، ونتحمّل في سبيل ذلك كل العقبات والعوائق ونُؤكد جاهزيتنا لِلتعامل معها بل والتغلب عليها كي لا يَمتد خطرها إلى مُجتمع سيح المالح.

 

 

انبرى رجل آخر مُقاطعاً مُحدّث الرجال وهو ينظر إلى المُتحلقين حول الزعيم الراشد " فلوع":

 

ـ لا أشقّ عليكم، إنْ قلت بأنّ منافع تجارتنا مع الغُرباء عظيمة ولا ريب فإنّ مَساوئا قد تظهر وفق مآلات المصالح، فتلك ما هيَ إلا تحوّلات قد تُصاحب تبادل المنافع بين المُتجاورين، مكسباً وخسارة، وهي ظاهرة وقتية لتسيير مَبدأ البيع وتُعَد عند الكثيرين من قِيَم المُبادلة، وسُلوك يُفرض نفسه في منافع التجارة.؛

 

والغُرباء، طرف غير هَيّن بل هُم طرف مُهِم في عملية المنافع والمُبادلة وشريك مُتجذّر فرضته ظروف قسرية وتداخلات تجارية وقِيَم أخرى.

 

نظر إلى الوجوه بصمت لم يطول، ثم نظر إلى السماء بعينين شاردتين وأعاد نظرته إلى الجمع المُتحلّق حوله وأردف قائلا:

 

ـ الأهم أيها الرجال، أننا مُستعدون لمواجهة الوادي الصغير، ولن نُوقف تجارتنا لأسباب ضَعيفة، ولْندع الذين يتحدثون عن جغرافية الأرض والتراب والتُراث المُتصل في أحلامهم.. فنحن لسنا مسؤولون عمّا مضى، وما يَهُمنا في السيح المُتحد هو التعايش وسلامة أهْلنا وعيشهم الرغيد ومُبادلة المنافع المُشتركة..  فالتجارة الواعية لا حُدود لها.. وسواء أكانت مع الغُرباء أو مع غيرهم مِمّن يُجاورنا فلا بُد أنْ تقوم على السيادة والاحترام المتبادل، وجمع الحارات في مُتحد واحد مِمّا يعني استقلالنا عن الوادي الصغير في كل المُستويات صغيرة وكبيرة وتبقى روابط التاريخ والمنافع المُشتركة التي نُؤمن بها، وفق قِيَم السيادة الكاملة.

 

قال الزعيم الراشد " فلوع " مُحدثاً الناس:

 

ـ أشكركم جميعاً على الاتفاق، فكل مُتّحد فيه خير كثير وقوة..

 

سكت بُرهة ثم أردف:

 

ـ لن نسْمح لأحد من خارج مُتَحَدنا، العبث بنظامه الجديد أو تجزئة سيح المالح أو إشعال فتنة بين حاراته.؛

 

كما أننا نرفض تمرّد رجال الوادي الصغير ومُحاولة اجْترارنا إلى شقاق وتمزّق ، وليعلم الجميع أنّ الحارات العَشْرة، من النظام الجديد تُعرف بـ" سيح المالح المُتحد" قد أصْبحت وحدة واحدة لا يُمكن تجزئتها.

 

وقد جاء ذلك المُسمى عن قناعة رجالنا فالمُتّحد صرخة في وجه التمَزّق والانشقاق وصوت حُر من الأعماق ونداء للوحدة. ولذا فنحن في "السيح المُتحد" نؤكد بأننا لا نستهدف المَساس بجُغرافية الوادي الصغير، وعلى الغُرباء احترام ذلك والتعامل معه.

 

توقّف فجأة والتفت يميناً وشمالاً، ثم سار مُسرعاً وتبعه نفرٌ كثير من الناس.

 

قال رجل  للذي كان إلى جانبه:

 

ـ الغُرباء لديهم بعض النوايا الفاسدة المُبيّتة .. وكُنا نظنّ بأنها غير مُؤثرة و يُمكن تجاوزها أو تجاهلها ، لكن اتضح أنها ضارة ، لأنّنا لم نتوصّل كُلّياً إلى الذي في جُعبتهم ولم نفطُن إليه.؛.

 

رد الرجل وهُما يَمشيان بجانب بعض :

 

ـ لا يُمكن التعرف على كل النوايا من أوّلها ، فقد تسقط الورقة ولا تُحس بها ،وقد تسقط وتُحس بها ، ذلك إحْساس قد يَمُرّ بنا ويُؤدي إلى تضخيم الأمور وتعطيلها .؛

 

ـ إذنْ فلنعُطّل مُحاولة الغُرباء لتغيير جُغرافيتنا .؟ فهم قد يَسعون لتعتيم قناعاتنا ، بالإلتفاف نحو خَلْق مشاكل بين سيح المالح والوادي الصغير بشيء من الخُبث والمَكْر.

 

بدا الليل في حُلّة من غَسَق قاتمٍ وسحائب من ظُلْمَة تتعمّق وتتكاثف وبدا الظلام كحالة غامضة لا يَطّلع عليها أحَد .

 

يتبع 5

تعليق عبر الفيس بوك