غاب زمانًا يسيرًا.. وعاد بالأسرار

 

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

إنَّ عفوية الحضور المفاجئ للذاكرة أثناء الكتابة، تجرُّني إلى مشاهد لم تكن في البال عند بدء الكتابة، لكنها تطفر فجأة، وكثيرًا ما تأخذني الى مسار مغاير بسبب هذا الحضور المفاجئ، تعيدني لاكتشاف القضية التي طرحتها وما زالت، تجعلني أعيد ترتيب الأوراق.. الغريب أن الذاكرة أحيانا ما تتعامل مع الأحداث، بطريقة تأخذ الحدث وتضعه في مكان وزمان غير الزمان والمكان، دائمًا ما تحتفظ لي ذاكرتي الأسى والحزن مما قرأت وشاهدت، فتعود بي ذاكرتي إلى أحداث السابع من أكتوبر 2023م، لا أريد أن أتحدث في هذه اللحظة عن المعاناة، ولا عن جريمة الإبادة الجارية في غزة، ولا عن تداعيات ما بعد ذلك.. أعود، لتستقبلني أنباء الهدهد الذي كشف عورة الكيان الغاصب، وبين هشاشة منظومته الأمنية والعسكرية، طار عقلي لمعرفة الأنباء، أعلم أن أطفال غزة يبادون، نساؤها ثكالى، ويواري رجالها دموعهم عن الأنظار، لأن أغلب أطفال غزة أشلاء، يوضعون في أكفان بيضاء، يدفنون في مقابر جماعية.

لا أريد أن أتحدث عن الحرب الظالمة، لكنَّ عودة الهدهد أيقظت ذاكرتي، أنظر إلى صور، إحداثيات، ومواقع حصون وقلاع الكيان الأمنية والعسكرية، يفندها الهدهد ويصف تحصيناتها، بوضوح تام، أخذني وصفه الدقيق لأسطورة بعد الكيان الأمني والعسكري، ثم يعيدني إلى ما أنتجته الشهور الماضية، التي ظلت ولا تزال المقاومة تطاحن العدو فيها. أخبرنا الهدهد أنه قد عاد بالخبر اليقين، وأنه كشف وَهَن هذا الكيان المنفوخ بخواء أمني وعسكري.. درسٌ يلقيه الهدهد علينا، يلقي الحجة والبرهان، بالتحديد على كل من يظن أن هذا الورم الخبيث لا يمكن استئصاله، لا يعرف بعده وقوة تأثيره على خلايا المناعة والمقاومة، دفع الهدهد كل شُبهة، بادر بتوضيح طهارة ونزاهة المقاومة صاحبة الحق والقضية، أزال كلَّ الشُّبَهِ التى ألصقها به كل مشكك وحاقد في قدرات المقاومين، بدقةٌ ما رأى الهدهد، دقة وصفه، دقة طرحه، دقة ملاحظته، دقة رسمه للصورة كما هي دون زيادة أو نقصان، قد سَرَدَ كلَّ شيء، وطرح كل شيء، بشكل موجز ومختصر، دون أن يُسهبَ أو يُطيل، دون أن ينسى شيئًا، أو يغفل عن شيء أو يترك شيئًا.. درس لمن يرفع من شأن أمر هذا العضو الغريب المزروع في جسد الأمة أو يدلي بشهادة دون أن يأتيَ بخبر يقين عنه، أو يأتي بالتافه ويغفل عن الأساس، يقدم الهين وينسى الأهم، أو يذكر الجزء وينسى الكل. وإنما وَضَع الهدهد الأمر كما هو بتفاصيله وبفروعه وأجزائه، كما قدم أصل القضية؛ ورأس الأمر وزُبْدَةَ وحدة ساحات المقاومة.

عدتُ أنا أيضًا بذاكرتي، استعدتُ يقين نصر أصحاب الحق بعقلي، قلت: أليس ما أتى به الهدهد مقدمات هذا النصر؟ حين كُنت أرى جيش العدو الغاصب يفرُّ مذعورا خارج مدرعاته المحصنة، منسحبًا يجر أذيال الخيبة والخيال من ضربات أبطال القسام ورجال المقاومة في غزة، يبلغني إحساس جميل، مزيج من نشوة الظفر والفخر. أنا أرى ما أتى به الهدهد، فأجد فيه كل ما قد يدفع بتلك الأحاسيس التي تلامس إيمان القلب بالنصر، تأخذني بقوة نحو الدفء المنبعث من أرجاء أرض فلسطين كل فلسطين.. إنني مازلت ذاك المتابع لبطولات المقاومة وجبهات المساندة لها، أجد في عودة الهدهد أمرا يسرُّني ويسرُّ كل الأحرار . عادت ذاكرتي لتضع ما بها أمامي، بادرت بسكب حبر قلمي فرحًا وفخرًا، تطلعتُ إلى هذا العائد لتوِّه حائمًا فوق أرجاء الأرض، كاشفًا عورة من يحتلها، ويمارس أبشع الجرائم في حق أطفالها، بكيت بكاءً لا أدري أتروي مياهه نبات الأرض التي جرفها الكيان اللقيط أم تحرق نيرانه الأجساد المدفونة فيها.

لا أريد أن أتحدث عن الحرب، بل لا أريد حتى تذكرها. لكنَّ نبأ الهدهد كشف بعدًا أمنيًّا وعسكريًّا، كشف سوأة الكيان صورًا وتحليلًا، ورفع به قوة المقاومة، تفرض شموخها كنخلة باسقة مُصمَّمة لأن تبقى حاضرة بوضوح في المشهد، بألوانها الطبيعية وابعادها الواقعية. رأيتني واقفا أمام هذا الخبر اليقين مُحاطاً بحافز لا مثيل له، كانت فكرة ذكية من المقاومة، لم يصدقها العدو، لم يتوقعها، بدا مذعورًا مذهولًا، لتنطلق نداءات قادته متأخرة منكسرة. لقد قطع الهدهد مسافة البُعد الأمني والعسكري التي كان يتغنَّى بها الكيان الصهيوني ومن سانده، حين أفاق من الصمم الذي طمس سمعه، وانفتحت عينه مباشرة صوب صور الهدهد التي كشفت فشله ووهنه، فتبادل قادته النظر إلى ما التقطه الهدهد من صور وارقام، أظهرته عاريًا منكشفا، ظل قادة العدو ووسائل إعلامه في طرح الأسئلة ولا تزال، ثم يعودون للهمس في آذان بعضهم: ماذا أراد حزب الله بهذا؟ لقد كشف الغطاء، لم يستسغ الكيان الغاصب معلومات الهدهد الاستخبارية المملوءة غصصًا كمًّا وكيفًا، ولم يقدر على ابتلاع الأول حتى  استقبل الثاني، وسينقطع نفسه بالهدهد الثالث. لقد أبى الهدهد إلا أن يعيد ذاكرتي إلى 7 أكتوبر 2023م، مضت تسعة أشهر على الحرب الغاشمة على غزة، ولا يزال قلمي عاجزاً عن تركيب العبارات، فقط بعض الكلمات المتزاحمة، لكني كُنت ولا أزل أتكلم عن قضية لها قدسيتها، فيرتفع صوتي بقوة متجاوزًا جدران الصمت، ليسمعه المستيقظ والمنتبه.. لا، صوتي لم يرتفع إلا حين يرتفع صوت المقاومة، سيأتينا الهدهد بخبر ينقطع فيه دابر هذا الكيان اللقيط، وترتجُّ به جدرانه من هوله، وليس ذلك ببعيد.

تعليق عبر الفيس بوك