مونتغومري وات.. المستشرق الذي دافع عن النبي

 

 

د. هيثم مزاحم*

المستشرق الأسكتلندي مونتغومري وات هو أحد أبرز المستشرقين المعاصرين وأكثرهم موضوعية ومعرفة بالإسلام. فهو كتب أكثر من 25 كتاباً عن الإسلام أبرزها سيرة النبي محمد في جزأين: "محمد في مكة"، و"محمد في المدينة"، و"محمد النبي ورجل الدولة"، تناولت سيرة الرسول وشخصيته القيادية كنبي مرسل وقائد سياسي ورجل دولة. وكان وات مدافعاً عن النبي ومنصفاً له في معظم ما كتبه على الرغم من تفسيره الخاطئ لبعض المواقف والأحداث، فهو في نهاية المطاف لاهوتي وقس مسيحي، لكنه كان يعتقد بصدق النبي محمد إلى درجة أنه كان يعتقد أن إيمانه المسيحي لا يمنعه من الاعتقاد بصحة وحي القرآن وصدق نبوة محمد.

يقول وات في تمهيده لكتابه "محمد في مكة": "لقد حاولت المحافظة على الحياد في المسائل اللاهوتية التي يدور حولها النقاش بين المسيحية والإسلام، فمثلاً، لتجنب الجزم بما إذا كان القرآن كلام الله أم لا، فقد تحاشيت استخدام التعبير "يقول الله" أو "يقول محمد" واستخدمت التعبير "يقول القرآن"، ومع ذلك فإنني لا أتبنى المنظور المادي بحجة التزامي بالنزاهة التاريخية، فأنا أكتب كمؤمن بالتوحيد.

ويقول وات إنَّ الروايات التي وصلتنا عن خَلق النبي محمد تتفق عموماً وهي قريبة من الحقيقة، وبعضها يعبّر عن نزعة لرسم صورة لمحمد الرجل الكامل أو المثالي. يقول وات في معرض وصفه لأخلاق الرسول محمد إن هناك الكثير من القصص التي تدل على دماثته وحساسيته، مستشهداً برواية كيف أبلغ النبي أسماء، أرملة جعفر بن أبي طالب، بخبر مقتل زوجها وكيف احتضن أطفال جعفر وشمّ رائحتهم كما تفعل الأم مع صغارها ثم بكى. كما يشير إلى حب النبي محمد للأطفال حيث كان يشعر بحنين خاص نحوهم وكان الأطفال يحبونه دوماً، مذكّراً بعطفه الأبوي على ربيبه زيد، وتعلّقه الشديد بإبن عمه علي بن أبي طالب الذي عاش فترة في عائلته. وكان النبي يشارك الأطفال في ألعابهم ويتخذهم أصدقاء ويمزح معهم، إذ يقال إنه لعب مع أطفال كانوا عائدين من الحبشة ويتحدثون بلغتها. وكان رؤوفاً بالحيوانات أيضاً فحين مسيره لفتح مكة رأى كلبة مع صغارها فأمر بعدم إخافتها.

وبعد عرض وات لهذه الأوصاف وغيرها من التفاصيل والأمثلة عن خُلق النبي محمد (ص)، يخلص إلى أن تلك ملامح مفيدة في شخصية محمد تساعده على إتمام الصورة التي يتخيّلها له من خلال سلوكه في الشؤون العامة. فمحمد كان يكسب احترام الناس وثقتهم بسبب الدوافع الدينية التي كانت أساس عمله وبصفات امتاز بها كالشجاعة والعزم وعدم التحيّز والصلابة التي تقارب القسوة يُلطّفها كرمه وسخاؤه، إضافة إلى أن السحر المنبعث من تصرفاته كان يضمن له محبة المقرّبين منه وإخلاصهم(6).

أما عن المزاعم التي تشكك في أخلاق الرسول فيقول وات: "منذ دراسة كارليل عن محمد في كتابه "الأبطال وعبادة البطل" (Heroes and Hero-worship)، أدرك الغرب أن هناك سبباً قوياً للاعتقاد بصدق محمد. إن استعداده للتعرض للتنكيل في سبيل معتقداته، والشخصية الأخلاقية النبيلة للرجال الذين آمنوا به واتخذوه قائداً، والعظمة البادية في إنجازاته النهائية إنما تصب في معين نزاهته المتأصلة، وافتراض أن محمداً أفاك يفتح الباب أمام معضلات أكثر مما يحل منها. يضاف إلى ذلك أنه ما من شخصية من عظماء التاريخ تعرضت لبخس حقها في الغرب كما كان مع محمد".

يقول وات: "ليس بين كبار رجال العلم رجل كثر خصومه كمحمد، ومن الصعب فهم سبب ذلك". ويشير إلى بروز الإسلام كعدو للمسيحية بعد الفتوحات للمناطق المسيحية في سورية ومصر وتركيا وتهديد أوروبا الغربية في إسبانيا وصقلية، وكيف أخذت الدعاية الأوروبية الكبرى تعمل على إقرار فكرة أن الإسلام هو "العدو الأكبر" للمسيحية وأوروبا، وذلك قبل أن تبدأ الحرب الصليبية التي وحّدت المسيحيين حول طرد المسلمين العرب من "الأرض المقدسة". ويضيف أن محمداً أصبح في نظر الأوروبين "ماهوند"، "أمير الظلمات"، واستمرت هذه الدعاية المشوّهة للإسلام والنبي حتى إذا ما حلّ القرن الحادي عشر كان للأفكار الخرافية المتعلقة بالإسلام والمسلمين والقائمة بأذهان الصليبيين تأثير يؤسف له. ويذكر المستشرق البريطاني ثلاثة مسائل تدور حولها الانتقادات المسيحية والغربية لشخص الرسول محمد وهي: الخداع، والشهوانية، وعدم الوفاء.

التُّهمة الأولى: الخداع؛ أي أنَّ محمداً قد خدع الناس بأنه رسول الله وجعلهم يتبعونه برغم أنه لم يكن يؤمن بما يُوحى إليه وأنه لم يتلقَ الوحي من مصدر خارجي بل أنه ألفها بنفسه لجعل الناس يتبعونه من أجل السلطة وحبه للملذات. يرى وات أن المستشرق توماس كارليل قد نفى هذه التهمة عن الرسول منذ أكثر من مئة عام، وأن هذه الرؤية للأمور غير معقولة، لأنها لا تفسّر لنا بطريقة مرضية لماذا كان محمد مستعداً -في الفترة المكية- "لتحمّل جميع صنوف الحرمان، ولماذا فاز باحترام رجال شديدي الذكاء وذوي أخلاق مستقيمة. كما أن ذلك لا يجعلنا نفهم كيف نجح في تأسيس ديانة عالمية أنجبت رجالاً قداستهم واضحة للعيان"، إلا إذا افترضنا صدق محمد، أي أنه كان مقتنعاً حقاً بأن القرآن هو وحي نزل عليه من الله وليس من إنتاج خياله.

يقول وات إنَّ هذه النظرة لصدق محمد قد تؤدي إلى سوء فهم، فيقوم بتوضيحها بأن القول "إن محمداً كان صادقاً لا يعني أن القرآن وحي حق وأنه من صنع الله. إذ يمكن أن نعتقد -بدون تناقض- أن محمداً كان مقتنعاً بأن الوحي ينزل عليه من الله، وأن نؤمن في الوقت نفسه بأنه كان مخطئاً.

والمسألة التي تذكر عادة كدليل لاتهامه بالخداع هي الامتيازات الخاصة للرسول بشأن الزواج. ودرس وات موضوع زواج النبي من زينب بنت جحش ليخلص إلى أنه لم يستسلم لرغباته الأنانية. فزينب كانت إبنة عمته وهو زوّجها من ربيبه، زيد بن حارثة. وأضحت حياة زيد مع زينب لا تطاق فطلقها زيد، فتزوجها محمد بعد نزول آية تبرّر هذا الزواج باعتبار أن الأبناء بالتبنّي ليسوا أبناء حقيقيين كما كان يعتقده العرب قبل الإسلام وقبل نزول هذه الآية. ويرى وات أن محمداً لم يكن يريد الزواج من زينب لأنه كان يخشى استهجان الرأي العام من زواجه من طليقة ربيبه أو إبنه بالتبني، لكن هذا الزواج أصبح واجباً فُرض عليه وأظهر للمسلمين مبدأً فقهياً بجواز زواج الوالد من الزوجة المطلقة أو الأرملة للولد بالتبنّي. بل يذهب وات إلى أن جميع زيجات محمد كان لها هدف سياسي. فلم يكن في حياته الجنسية عموماً ما يحمل معاصريه على الحكم عليه بأنه لا يتفق مع نبوته، فلم يُنظر إليه على أنه شهواني، فهو كان يسيطر تماماً على عواطفه أمام النساء، ولم يكن ليتزوج إلا إذا كان هذا الزواج مستحسناً سياسياً أو اجتماعياً.

يقول وات إنَّ هناك أسباباً قوية تؤكد صدق النبي محمد، مهما كانت طريقته في تلقي الوحي، فهو صادق بشأن إيمانه بأن الكلام الذي كان يسمعه بأنه نازل من عند الله، ولا يخلط بينه وبين أفكاره الشخصية.

أمَّا بشأن الزعميْن الآخرين، وهما اتهام الرسول بعدم الوفاء أو الغدر والشهوانية، فيعتبر وات أن النقاش لا يدور فقط حول الوقائع بل حول قواعد الأخلاق التي يجب الحكم على الأفعال بموجبها. أما الوقائع التي يُشكّك بها بأخلاق محمد، فهناك اتفاق على واقعتين هما: نقض صلح الحديبية مع مشركي قريش وزواج محمد من زينب بنت جحش. لكن المستشرق وات يعتقد أن الظروف التي رافقت هاتين الواقعتين محل خلاف واسع، وأن القواعد الأخلاقية التي يجب أن يُحاكم على أساسها الرسول هي المبادئ الأخلاقية لشبه الجزيرة العربية في ذلك العصر. ويرى وات أن الاتهام بعدم الوفاء يضمن اتهامات عدة وجهها للنبي محمد كتاب أوروبيون، منها زعمهم أنه نقض اتفاقاته مع اليهود ونقض صلح الحديبية مع المكيين. ويذكر وات أنه إذا كان ينظر إلى تصرفات يهود قريظة خلال حصار المشركين ليثرب، بأنها أنهت كل اتفاق مع الرسول، وأن مشركي مكة كانوا قد نقضوا معاهدة الحديبية قبل أن يفعل محمد ذلك.

ويعتبر المستشرق البريطاني أن محمداً كان بمقاييس عصره مصلحاً للشؤون الاجتماعية وللقيم الأخلاقية، فقد أوجد نظاماً جديداً يساعد الأمة الإسلامية على الشعور بالأمن والطمأنينة. كما افتتح تنظيماً اجتماعياً جديداً، واقتبس كل ما رآه حسناً عند البدو لتلبية الحاجات الحضارية للمجتمع، وأقام إطاراً دينياً تسير عليه حياة سدس الجنس البشري. وبرغم تسنّم النبي محمد السلطة المطلقة في المدينة، إلا أنها لم تفسده إطلاقاً، فقد كان -بحسب وات- سّيد المدينة ورجل عصره، كما كان الداعي المضطهد في مكة، وليس المثل الأعلى عند الداعي في مكة أرفع من المثل الأعلى عند القائد والمصلح في المدينة. ويضيف: "كان معاصرو محمد في الفترتين المكية والمدنية ينظرون إليه على أنه رجل فاضل ومستقيم وقد وجد التاريخ فيه مصلحاً اجتماعياً". يقول وات إنه لم ينظر في شخصية محمد إلا حسب المبادئ الأخلاقية في عصره، وإن هناك طريقة للحكم على النبي بحسب المبادئ الأخلاقية العامة.

*رئيس مركز الدراسات الآسيوية والصينية - لبنان