صلابة التسامح في المجتمع العماني

 

 

أنور الخنجري

alkhanjarianwar@gmail.com

ما بين الميلاد والموت سلسلة مُتصلة من الأحداث، تعود بنا أحيانا إلى واقع عايشناه أو قرأنا عنه وسمعناه، وحينا نتلمسه يوميًّا من خلال ما تطالعنا به وسائل التواصل الاجتماعي المختلفة من تغريدات ومدونات...وغيرها من منصات الإعلام العشوائي واسعة الانتشار، بعضها يأخذ طابع الغلو والتشدد والتنطع باسم الدين أو المذهب أو العرق أو غيرها من المُسميات، وبالمقابل هناك من يختلف معها من تيارات ومذاهب، وبعضها يُعارض بشدة هذه الانتماءات والتوجهات ومؤيد للحداثة ومنهاجها الدنيوي.

إنَّ مثل هذه التجاذبات الشرسة الحاصلة في المجتمع، أي مجتمع في العالم، لهي دليل واضح على تغيُّر بعض السلوكيات التي أخذت طابع التطرف والانفعال، وأبرزت دون شك طبقة تُحاول أن تكون متميزة بفكرها وعقيدتها وفرضها على الآخر من خلال صراعات مجتمعية ممنهجة. هذه الصراعات -خاصة في عالم متعدد الثقافات والقوميات والمرجعيات- تكون عادة أشد شراسة عن غيرها من المجتمعات؛ حيث تحاول كل فئة سحق من يُخالفها بقوة الكلمة تارة وبقوة السلاح تارة أخرى، وجميعها في كل الأحوال وعلى مر التاريخ يكون الماضي جزءا من حاضرها الكئيب، بل يُهيمن عليه ويقوده إلى ارتكاب أفعال لا يتقبلها العقل لأنها لا تستند في عصرنا هذا على فكر ناضج أو إبداع مُتميز يقود الأمة إلى التَّحضر والتقدم والرقي الذي تدعو إليه جميع الأديان والمذاهب والطوائف والملل باسم الخالق جلَّ وعلا وباسم الإنسانية عموماً.

نحن هنا في عُمان لم نكترث كثيرا لمثل هذه التجاذبات العقيمة، موقنين أنها صراعات عبثية ليست في صالح الأمة قطعاً، إننا هنا في عُمان يكفينا أن نكون بشراً خيِّرين لننال ثقة واحترام وتقدير الآخرين، إننا كمواطنين لا ننظر إلى الدين أو المذهب أو العرق كأساس لتعاملاتنا مع الآخر، بل نتعامل مع كل الطوائف والتيارات على صعيد واحد، ونؤمن بأنَّ الأديان والمذاهب جزء من الاختلاف، بل هي من الفطرة أن نتعايش مع كل الأجناس والأطياف على حد سواء، إننا لم نختر مذاهبنا بل كلنا لمذاهب آبائنا منتمون، لذلك نحن متعايشون مع بعضنا، ولا يستطيع أي بعض منَّا أن يدعي أنه على حق دون غيره. لدينا -ولله الحمد- المساجد والكنائس والمعابد، ويعيش بيننا المسلمون بمختلف مذاهبهم وطوائفهم، كما يعيش بيننا النصارى والهندوس لمئات السنين، في وئام تام دون أن تكون هناك صراعات مذهبية أو دينية، وإنما سِلم ومحبة وأمان، ولم يسجل التاريخ أبدًا حروبًا دينية أو مذهبية بينهم، رغم أن بلادنا تحوي أتباع مختلف الأديان والطوائف والمذاهب.

إنَّ طبيعة الكون التطور، والعالم الذي نعيش فيه اليوم مختلف عمَّا عاشه أجدادنا، عالم اليوم بالغ السرعة صاخب الضجيج متشابك المصالح، ولا يُمكن أن تسيطر عليه أنماط محددة من الأفكار، أو أن تفرض فئة دون غيرها هيمنتها على الآخر. لا نريد أن نكون عند مفترق الطرق لا نعلم ماذا نحن فاعلون، فلدينا من ماضينا الكثير من العبر والدروس التي يمكننا الاستفادة منها لتوجيه البوصلة للاتجاه الصحيح لرسم سلوكياتنا وفق ما لدينا من قيم ومبادئ حدَّدها لنا ديننا الإسلامي الحنيف، مع الأخذ بالأسباب التي لا تشغلنا عن همومنا الحقيقية أو تعزلنا عن الآخر.

هذا الاخر هو أيضا جزء من نسيجنا الاجتماعي، ومكون مهم لا يمكن أن نمقته لمجرد أننا نختلف معه في الرأي أو الفكر أو الدين أو المذهب. كما أن النهج الناجع الذي رسمه لنا السلطان قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- وما حققه من إنجاز عظيم في توحيد الأمة العمانية بكل مكوناتها وخلفياتها العرقية يعدُّ مدرسة بحد ذاتها يمكن الاقتداء بها وتطويرها للاستمرار في بناء عُمان الخير من أقصاها إلى أقصاها؛ فخلال الخمسين عامًا الماضية استطاع -رحمه الله- أن ينتشل عُمان من براثن الفقر والبؤس والصراعات الداخلية لننعم اليوم بالخير والسلام كدولة يُضرب بها المثل في التسامح والتعايش السلمي، ونحن بعون ألله، وتحت القيادة الرشيدة لمولانا حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم حفظه الله ورعاه، على نفس النهج سائرون.

إنَّ الحادث الذي شهدته بلادنا موخراً في منطقة الوادي الكبير من ولاية مطرح، لهو حدث مؤسف ونادر، لم يسبق له مثيل على هذه الأرض الطيبة، وأيًّا ما كانت انتماءات أو توجهات الفاعلين فهي "عدوان سافر لا يورث إلا الأحقاد ولا يعقب إلا الفتن"، كما قال شيخنا الجليل سماحة أحمد بن حمد الخليلي مفتي عام السلطنة. إن ما حدث يقتضي أن نكون مدركين لخطورة مثل هذه الأفعال التي قد تسيطر على عقول بعض الفئات غير المدركة لعواقب الأمور، ويتوجَّب علينا في مثل هذه الظروف أن نعي حقيقةً حجم المسؤولية الملقاة على عاتقنا كمواطنين لدرء خطر الإنجذاب نحو تصديق كل ما تُورِده حسابات التواصل الاجتماعي من تفاهات.

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يهدينا إلى سواء السبيل.

تعليق عبر الفيس بوك