أوروبا المُتطرفة نحو اليمين

حاتم الطائي

 

◄ تحولات سياسية حادة تشهدها منظومة الحُكم في أكبر تكتل إقليمي عالمي

◄ تحالف الصهيونية العالمية مع اليمين المُتطرف يستهدف تصفية القضية الفلسطينية

◄ أوروبا باتت أشبه بحقل ألغام حيث تنتشرُ قنابل اليمين المتطرف في كل بلد تقريبا

 

خلال الأسابيع القليلة المُنصرمة، شهدت القارة الأوروبية تحوّلات جذرية على المستوى السياسي، بعد صعود أحزاب يمينية مُتطرفة واستحواذها على عددٍ كبير من مقاعد البرلمان الأوروبي، وقبل ذلك تفوُّقها السابق خلال السنوات القليلة الماضية داخل البلدان الأوروبية، واعتلاء شخصيات وأحزاب يمينية سُدة الحكم في هذه الدول، منها إيطاليا وإسبانيا والمجر، وفيما يبدو أن دولًا مثل فرنسا وبولندا وهولندا والنمسا والبرتغال تمضي في طريقها نحو أنظمة حُكم يمينية مُتطرفة، بعد عقود من حُكم أحزاب اليسار والوسط ويسار الوسط. ومن هذه التحوُّلات فوز زعيمة الجبهة الوطنية ماريان لوبان بعددٍ كبير من المقاعد في انتخابات الجمعية الوطنية الفرنسية (البرلمان)، واحتمال أن تُطيح هذه النتائج بالرئيس الحالي إيمانويل ماكرون.

هذه التحوّلات السياسية الحادَّة في منظومة الحُكم في أكبر تكتل إقليمي عالمي، توضِّح أن أوروبا مُقبِلة على مستقبل يشوبه الغموض في كثير من جوانبه، وبالتبَعِيَّة قد يواجه العالم تحديات ومخاطر غير مسبوقة، لا سيما على المستوى الأمني والعسكري والاقتصادي، وكذلك السياسي.

وقبل الخوض في تحليل مُسبِّبات صعود اليمين المُتطرف والنتائج المُحتمل حدوثها، ينبغي الوقوف عند نقطة بالغة الأهمية؛ بل هي عنصر الحسم والفهم العميق لقضية صعود هذا التيار السياسي المُتطرف، ألّا وهي قضيتنا الأولى: فلسطين؛ إذ لا ريب أنَّ الصعود السياسي للأحزاب اليمينية المُتطرفة مدعوم بصيغة أو أخرى من الصهيونية العالمية، الرامية لتحقيق مآرب وغايات سياسية واقتصادية. هذه الصهيونية تُمارِس في الوقت الراهن حربَ إبادة شاملة ضد الشعب الفلسطيني الأعزل في قطاع غزة؛ بل وفي كامل التراب الفلسطيني، دعمًا وتنفيذًا للمُخطَّط الساعي لطرد الشعب الفلسطيني من أرضه، وتوطين اليهود المُغتصبِين. ومن المفارقات أن نجد هذا التحالف المتين بين الصهيونية العالمية واليمين المُتطرف، على الرغم من أنَّ هذا الأخير يُمثل امتدادًا- بصورة أو أخرى- للتيارات الفاشية والنازية التي نُسِب إليها ارتكاب "المحرقة"، غير أنَّ المصالح الآنية والعلاقات المشبُوهة بين الجانبين، مَهّدت الطريق إلى هذا التحالف.

غير أن هذا التحالُف بين الصهيونية واليمين المُتطرف ليس وليد اليوم؛ بل له جذور تاريخية؛ إذ إنَّ قادة الصهيونية والنازية وقَّعُوا اتفاقيةً في ثلاثينيات القرن الماضي خلال حُكم أدولف هتلر، الذي مَوَّل عمليات ترحيل اليهود "الترانسفير" إلى أرض فلسطين لبناء وطن لهم، من خلال اغتصاب الأرض الفلسطينية.

وهذه المصالح تكمُن أولًا في: رغبة إسرائيل في تفكيك الاتحاد الأوروبي الذي يُعد واحداً من أكبر الداعمين الغربيين لحل الدولتين، خاصةً وأن اليمين المُتطرف لا يؤمن باستمرارية الاتحاد الأوروبي، وينزع بشدة نحو المصالح القومية بينما لا يُعير أي اهتمام تجاه "المنظومة الأوروبية الجامعة"، ويسعى إلى تكرار "البريكست" البريطاني في عدة دول. ورغم الموقف الأوروبي الضعيف ضد جرائم الحرب والإبادة الجماعية في فلسطين، إلّا أنَّ هذا الموقف يُؤيِّد- حتى الآن في ظل النخبة الحاكمة حاليًا- حلّ الدولتين، وضرورة وقف إطلاق النَّار في غزة، وذلك ليس بالضرورة إيمانًا بالحق الفلسطيني ودفاعًا عن حقوق الإنسان، بقدر ما هو رغبة أصيلة في نزع فتيل اشتعال حرب إقليمية كُبرى قد تكون إيران طرفًا فيها، بما يُهدد مسارات الملاحة الدولية والاقتصاد العالمي، ورُبما يُنذر بحرب عالمية!

ثانيًا: علاقة إسرائيل والصهيونية العالمية باليمين المُتطرف في أوروبا، معاداة اليمين المُتطرف للمسلمين والأجانب بشكل عام، وتأييده لطرد الفلسطينيين خارج أراضيهم؛ إذ يُعيدون طرح مُخطط طردهم إلى دول الجوار، وهو المُخطَّط الذي لم يُكتب له النجاح حتى الآن.

ثالثًا: النفوذ التقليدي للحركة الصهيونية واللوبي اليهودي في أنحاء عدة من العالم، وخاصة في أوروبا وأمريكا، واستغلال الأحزاب اليمينية المُتطرفة لهذا الكُتلة التصويتية وقدرة اللوبي اليهودي على الدعم وتمويل الحملات الانتخابية، ومن ثم احتياج هذه الأحزاب لهذا النوع من الدعم المالي السخي، لبلوغ أهدافها والسيطرة على الحُكم.

إذن نحن أمام تحالف مصالح مُتباينة لكنها تتفق على أهداف مُتطرفة، تسعى لإقصاء الآخر، وفرض سياسات مُتطرفة وعنصرية لا تخدم سوى المصالح الأنانية بغض النظر عن حجم الضرر الذي قد يلحق بالآخرين.

وصعود اليمين المتطرف لم يُشكِّل مفاجأة سياسية فعليّة، لكن التخوّف الأساسي، تَمَثَّل في حجم الصعود، ونسبة الاستحواذ على مقاعد البرلمان الأوروبي، وحتى مقاعد المجالس الانتخابية الوطنية في كل دولة؛ إذ لم يكن يُتوَقّع على نطاق واسع أن تفوز هذه الأحزاب بعدد مقاعد يمنحها فرصة الاستحواذ على السلطة أو بناء تيار أغلبية داخل البرلمان. ومصطلحات مثل: الحريات ونبذ التطرف ورفض العنصرية والإقصاء السياسي والحكم الرشيد ومبادئ التضامن والديمقراطية والعدالة الدولية، ستغدو جزءًا من الماضي، مع تزايد سطوة اليمين المتطرف على أوروبا.

صعود التيارات اليمينية المُتطرفة في أنحاء أوروبا، كان آخرها عودة حزب العمال البريطاني بعد غياب 15 عامًا عن السُلطة، فعلى الرغم من أنَّ "العمّال" تاريخيًا ينتمي إلى يسار الوسط، لكن النزعة القومية تعالت بشدة منذ عهد رئيس الوزراء الأسبق توني بلير- المُلطخّة يداه بدماء العرب والمسلمين في العراق وغيرها- قاد الحزب نحو اليمين المُتطرف، وانحاز إلى الحركة الصهيونية العالمية، خاصة بعد طرد زعيمه التاريخي جيرمي كوربين المؤيد للحق الفلسطيني، بتهمة "مُعاداة السامية" نظرًا لتعاطفه الصريح مع القضية الفلسطينية، ورفضه الجريء للممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني.

ومن الواضح أن صعود اليمين المتطرف نابعٌ من عوامل مختلفة، لكن أبرزها: فُقدان المواطن الأوروبي الثقة في السياسيين والقادة الذين فشلوا في خفض معدلات البطالة، وأخفقوا في تحقيق استقرار اجتماعي أفضل، علاوة على تعدُّد الأزمات الداخلية والخارجية، وخاصةً الهجرة غير الشرعية التي باتت تؤرق أوروبا، وأصبحت في مرمى نيران النقد الشديد للسياسات التي أدّت إلى زيادة معدلاتها. كما إن الحرب في أوكرانيا وتأثر اقتصادات أوروبا بتداعياتها، ومعاناة المواطن في هذه الدول من النتائج المترتبة عليها، وفي مقدمتها التضخم وتراجع القوة الشرائية، وهو ما يُشير إلى أن معظم الدوافع التي تسببت في صعود اليمين المتطرف ناتجة عن سياسات داخلية أثرت بالسلب على معيشة المواطن، فلم يجد بُدًا إلّا أن يتجه نحو هذا التطرف علّه يجد ضالته!

وزيادة النزعة القومية وتنامي قوة التيار اليميني المُتشدِّد، يمثلان عاملين رئيسين يُهددان مُستقبل الاتحاد الأوروبي، فقد أضحت أوروبا أشبه بحقل ألغام تنتشرُ القنابل السياسية في كل بلد تقريبًا، وقد تنفجر في أي لحظة! فرغم أن أحزاب اليمين المُتطرف ليست على قلب رجلٍ واحدٍ، ومُنقسمة فيما بينها حسب درجة الشعبوية والنزعة القومية لديها. ومن المفارقات أن أوروبا- التي نجحت في بناء أقوى اتحاد مُشكِّلًا ثالث أكبر قوة اقتصادية في العالم بعد أمريكا والصين- نجدها الآن تُواجه خطرَ التفكك والانحلال نتيجة للسياسات الشعبوية. ومِثل هذه السياسات لا تقوم على أي أساس علمي سياسي أو اقتصادي أو حتى اجتماعي؛ بل هي استجابة عمياء لمطالب الدهماء ورغبة في دغدغة مشاعر المواطنين العاديين، الذين ملّوا من سياسات الحكومات المتعاقبة خلال العقدين الماضيين، على أقل تقدير.

والسياسيات اليمينية المُتطرفة تُهدِّد الأقلِّيات في أوروبا، وقد يتطور الأمر إلى ما لا يُحمد عُقباه؛ سواءً في صورة صراعات داخلية واستقطاب سياسي حاد، أو حشد انتخابي مُتطرف في كل موسم انتخابي، أو قد ينتهي الحال بصراع عنيف تُستخدم فيه أسلحة، وتندلع على إثره حروبٌ أهلية بين المُتطرفين الذين يؤمنون بتفوّق الجنس الأوروبي والعرق الأبيض على غيره من الأجناس والأعراق، وعلى رأسهم المهاجرون.

ويبقى القول.. إنَّ ما يجري من تطورات في أنحاء الاتحاد الأوروبي قد يُفضي إلى تصدُّعات تاريخية في البُنية الأوروبية، ويُهدد بقاء هذا التكتل الإقليمي بعد عدة عقود من "الاتحاد"، خاصةً مع دخول اللوبي اليهودي والحركة الصهيونية العالمية على الخط، ودعمها الكبير للتيار اليميني المُتطرف، الذي كان عدو الأمس لليهود، لكن أصبح اليوم حليفًا مُهمًا، لأنه يُساهم في دعم حرب الإبادة في غزة، ويدعم تحقيق المُخطّط الصهيوني الساعي إلى طرد الفلسطينيين من أرضهم. لذلك وفي المقابل، نترقب- وكثيرون معنا- مواقف أوروبا تحت قيادة المُتطرفين إزاء قضايا عدة؛ وهي: الحرب في أوكرانيا، والعلاقات مع أمريكا والصين، وأخيرًا والأهم بالنسبة لنا الأوضاع في الشرق الأوسط، وتحديدًا حرب الإبادة في غزة.

فهل يكون صعود اليمين المُتطرف في أوروبا مُقدِّمة لما حدث في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الثانية؟ أم أنَّ الأمر لا يعدو كونه فقّاعات من المصالح الانتخابية ستتلاشى تدريجيًا بعد الوصول إلى الحُكم، تمامًا كما حدث مع تيار المُحافظين واليمين المتطرف الذين قادوا بريطانيا نحو "البريكست" وكانت النتيجة "صفر كبير"!!