احتكار الحقيقة

 

عيسى الغساني

إعمال الفكر البشري للإنسان، عندما يصل الإنسان إلى سن الوعي والإدراك، كان ولايزال القوة التي تكتشف المعارف والعلوم، وباستخدام هذه المعارف والعلوم بني الاجتماع الإنساني، وتشكلت الحضارات الإنسانية.

فمنذ العصر الحجري إلى حضارات العالم القديم في العراق ومصر والى عصر التنوير والنهضة والعصر الصناعي في أوروبا والى يومنا هذا عصر الذكاء الاصطناعي، كان البناء ولا يزال بناء الأفكار المتقابلة والمتضادة والمتناقضة ومن ثم وضعها تحت المجهر بوسائل البحث العلمي الرصين؛ بما في ذلك طرائق البحث المعرفي المختلفة.

هذه المقدمة تقودنا إلى فرضية نسبية المعرفة ونسبية الحقيقة؛ إذ بدون هذه الفرضية لن يكون من المتيسر إطلاق العنان لوسائل التحليل والتفكير. وإذا عرفنا على سبيل المثال الحقيقة من الناحية اللغوية فهي اليقين والصواب والواقع وهي نقيض الوهم والزيف والمجاز. ويشكل مفهوم الحقيقة موضعًا مركزيًا في نظرية المعرفة الحقيقة؛ حيث تعرف بأنها اعتقاد صادق مُبرر، مُعزَّز بأسباب مقنعة. ولنضرب مثالًا بأن الشمس ستشرق غدًا؛ فالاعتقاد هو أن الشمس ستشرق غدًا، ومعرفة الظواهر الطبيعية وتاريخها المستند إليه لإثبات صحة اعتقاد شروق الشمس؛ فشروق الشمس حقيقة والجدال بشأنها عقيم؛ بل سقيم، وفيما عدا ذلك من غير الحقائق من آراء وتصورات فمجاله متاح.

إن الوعي بمفهوم منطق الحقيقة، ووضع إطار فكري لكل قضايا الإنسان سواء في الحياة الخاصة، أو إدارك المحيط وتبني منهج عقلي يقوم على الاتزان لقياس مختلف الأفكار التي ينتجها تصور الحل لمشكلة أو معضلة؛ سواء بحث علمي أو بحث اجتماعي أو قراءة التوازن الفكري والنفسي لكل مسألة، كل ذلك يقتضي التجرد الفكري، أي الحياد الكلي والخروج من مسألة البحث والنظر إليها من مختلف الزوايا ومن ثم تبني عدة أفكار وتدويرها وتمحيصها لاختيار الأفضل.

وفي التجمع البشري الذي تحكمه قواعد الحراك الدائم والتغيير المستمر، النظر إلى التغييرات والتقلبات الاجتماعية قد يكون من زوايتين؛ الأولى: الجمود والثبات والإنكار ورفض التغيير بحجة تثبيت الواقع بمنطق أنه الأفضل أو الأنسب. ولكن السؤال هنا: ما مدى نجاعة هذا الطرح؟ كيف ومن وما هو مبرر الصحة؟ وهل نحن لسنا في حالة إنكار لديناميكية التغيير؟

والزاوية الثانية هي التي يتبناها مؤيدو نسبية الحقائق ووضع المجهر على كل ظروف الواقع والحال ووضع منهج لتقابل الأفكار والحقائق والنظريات وتوجهها نحو القبول والتقابل والتصالح، فكل مجتمع تبقى ضرورة أن أفراده متصالحين مع ذواتهم يعد مركز الثقل للمجتمع، والتصالح مع الذات هو قبول الآخر وتقبله والتعايش معه بروح الصفاء والاحترام، ومن هنا تبني فكرة جديدة بوعي أعمق وإدارك أوسع وتنشأ مفاهيم التماسك والترابط وزوال التنافر والاستقطاب.

إنَّ كل فكرة اجتماعية ليست سوى إنتاج فكرة مؤسسة لمرحلة اجتماعية وسياسية، وأن تُقرَأ في سياقها الماضي والحاضر واستشراف المستقبل بمنطق النسبية، وهو شأن حيوي للنهوض.