مُبادرة البريمي.. مُلهمة للمحافظات الأخرى

 

د. عبدالله باحجاج

تشهدُ قضية الباحثين عن عمل الآن زخمًا وطنيًا مُتجدِّدًا، ويفتح الآفاق للحلول الوطنية- الدائمة والمُؤقتة- أكثر من أي وقت مضى، بعد تقرير اللجنة المؤقتة للباحثين عن عمل التابعة لمجلس الشورى، وقبل هذا التقرير مبادرة المجلس البلدي لمحافظة البريمي؛ فالإحصائيات الواردة في تقرير الشورى عن فرص العمل في القطاع الخاص، ومطالبة اللجنة بتطبيق منفعتي الباحثين عن عمل وربات البيوت، تفتحُ كل بوابات التفاؤل.

كما إننا نعتبر مبادرة المجلس البلدي لمحافظة البريمي النموذج المثالي لدور اللامركزية في المساهمة في حل قضية الباحثين من المنظور المحلي بكل محافظة؛ مما يُحتِّم علينا تعزيز هذه التوجهات الوطنية، وإنضاج أفكارها ومساراتها. كما إن التقرير والمبادرة يُعززان رهاناتنا على اللامركزية في الحل من منظور تصفير العدد التراكمي للباحثين عن عمل المُقدر بأكثر من 100 ألف باحث عن عمل.

وعملية التصفير بمثابة هدف أعلى مُستهدف خلال فترة زمنية قصيرة باعتماد آليات وزارة العمل كالتدريب والتأهيل والإحلال والتعمين، حتى لا تتأثر الإنتاجية بهذه النقلة في الكوادر البشرية. بالتالي لم تعد قضية الباحثين عملًا مركزيًا حصريًا، وإنما أصبحت من صلاحيات سُلط متعددة مركزية ولامركزية بعد تبنِّي نظام المحافظات عام 2022؛ حيث إن المادة (6) من النظام تمنح كل محافظة صلاحية البحث وصناعة فرص العمل، وهذا ما يُقدم عليه المجلس البلدي بمحافظة البريمي؛ حيث إنه لا ينتظر صناعة الفرص فحسب، وإنما يبحث عنها في القطاعات الاقتصادية والتجارية القائمة في مجتمعه المحلي لأبناء المحافظة. وقد رصدنا هذا خلال اجتماعه السادس الذي استضاف فيه عددًا من المختصين من إحدى الشركات لمناقشة آلية التوظيف فيها.

لم يحظ هذا النهج ونتائجه بالاهتمام الإعلامي والصحفي المُستحق في حجمه وزمنه، واكتفي بخبر مقتضب، رغم أن طبيعة مرحلتنا الوطنية تُحتِّم مناقشة وتحليل مثل هذه الخطوات العملياتية لكي تصل رسائلها الى المجتمع. وهذا لم يحدث ربما بسبب الاعتماد على الإعلام الحكومي المركزي المُنشغِل بكامل التراب الوطني، وهنا تدعو الحاجة الوطنية إلى إعلام لا مركزي يدعم توجهات ونتائج اللامركزية، إذ إن كسب المجتمعات المحلية غاية سياسية مُلحّة كذلك، وفيها التدرج للشمولية، والبنية التحتية للإعلام المحلي جاهزة، وقد كُنّا منذ بضعة سنوات ضمن فريق عمل ضم مديري عموم في الإعلام برئاسة سعادة ناصر السيباني نائب رئيس الهيئة العامة للإذاعة التلفزيون (سابقًا) قبل تقاعده، وقمنا بزيارة الكثير من محافظات البلاد؛ بما فيها محافظة البريمي لتجهيزها لمثل هذه المهام المحلية الوطنية، وذلك بصفتنا خبير إعلامي في مكتبه.

ولا شك أن نقل تجربة المجلس البلدي للبريمي ومتابعة نتائجها المتحققة أولًا بأول؛ سواءً كأخبار أو تحقيقات أو متابعات، سيُعزِّز الثقة المجتمعية في المسير، وترفع المعنويات، وتكون هذه التجربة عابرة للمحافظات الأخرى. وهنا لا ننفي مثيلاتها في بقية المحافظات، لكنها لم تظهر فوق السطح؛ فتصوراتنا لتجربة البريمي أنها تصُب فعلًا في تطبيقات نظام اللامركزية؛ إذ يلتقي الأعضاء المُنتَخَبون والمعيَّنُون للمجلس البلدي برئاسة سعادة المحافظ مع رؤساء ومختصي الشركات المحلية؛ لبحث توفر فرص عمل والاتفاق على آلية التوظيف وفق مسارات وسياسات الدولة. ولنتصور مشهد تعميم هذه التجربة في كل محافظات البلاد، من خلال قيام كل محافظة أولًا بحصر عدد الباحثين فيها، ومن ثم إجراء لقاءات مع الشركات المتواجدة في حيزها الإداري، والاتفاق على توظيفهم أو على الأقل عدد منهم.

هذه خطوة نراها أولية قبل تطبيق منفعتي الباحثين وربات البيوت، وذلك لمعرفة العدد المتبقي من الباحثين عن عمل الذين ستشملهم المنفعتان. والرهان ينبغي أن ينحصر أولًا على توفير فرص العمل للباحثين تفعيلًا للامركزية، مع التذكير بأنَّ يكون هناك نصيب مُخصَّص للمحافظات التي تقل فيها الأنشطة الاقتصادية والتجارية، وهذه العملية ستعطي زخمًا وطنيًا وشعبيًا كبيرين ومستدامين أكبر لو اقترن الحدث بمنفعة الباحثين. صحيحٌ أن هذه المنفعة ستصنع هذا الزخم، لكن مداها سيكون قصيرًا لدواعٍ كثيرة؛ أبرزها كون المنفعة لا تمثل حلًا مُستدامًا، وإنما وسيلة مؤقتة.

وآلية تنفيذ مقترحنا في التصفير أو على الأقل تخفيض العدد يكون من خلال نظام المحافظات، واستحداث منصب وزير دولة مُكلَّف بملف التصفير. وعادة منصب وزير دولة تلجأ إليه الدول من أجل تعيين تكنوقراطيين بهدف معالجة ملفات وطنية مُهمة مؤقتة أو دائمة، ويكونون تابعين لمجلس الوزراء، ومُنسِّقين مع الوزارات المعنية والجهات المختصة؛ وذلك لضمان التنفيذ، والتنسيق بين المحافظات للحرص على سيادة المفهوم الوطني لتطبيق هذا المقترح. وعندما ذكرنا في مقدمة المقال أن رهاناتنا على التصفير قد تعززت بعد تقرير اللجنة المؤقتة للباحثين عن عمل بمجلس الشورى، فإن ذلك تدعمه الإحصائيات والأرقام الرسمية الواردة فيه؛ فنسبة التعمين في القطاع الخاص منخفضة جدًا مقارنة بالقطاع الحكومي، فقد انخفضت في عام 2023 الى 21.5% مقارنة مع عام 2021 عندما بلغت 25.3%؛ وذلك يرجع الى ارتفاع اعداد العمالة الوافدة بمقدار 7%، رغم حالة التعمين المُخطَّطة. وكشف التقرير أن عملية التوظيف في القطاع الخاص غير متوازنة وتسير ببطء، مقارنة مع عدد الباحثين عن عمل وعملية التوظيف بالقطاع الحكومي؛ إذ يقوم القطاع الخاص بتوظيف أكثر من 6 وافدين مقابل كل عُماني، كما إن ارتفاع العمالة الوافدة بمعظم الأنشطة دليل على وجود فرص وظيفية يُمكن إحلال العمانيين فيها. وحسب التقرير فإن الوظاف الجديدة في عام 2022 كانت من نصيب الوافدين، ما عدا 4% منها فقط!

ومهما يكن؛ فهي نسبة منخفضة، وتفتح مجالات التوظيف عن طريق سياسات وآليات وزارة العمل؛ كالتدريب والإحلال والتعمين، وهنا نُقدِّمُ سيناريو اللامركزية الذي يُمكن أن ننطلق منه لتحقيق هدف التصفير كغاية عُليا، من خلال: إنشاء لجنة الباحثين عن عمل في كل مجلس بلدي، تتولى مهمة القيام بحصر عدد الباحثين والشركات في كل محافظة، وحصر بيانات العاملين في كل شركة حسب المجموعات المهنية والقطاعية، لمعرفة نسب التعمين فيها من عدمها، في ضوء ما توصل إليه التقرير عن وجود علاقة عكسية بين أعداد العمالة الوطنية والعمالة الوافدة؛ أي أنه كلما زاد عدد العمالة الوافدة انخفض عدد العمالة الوطنية أو ارتفعت بنسب ضئيلة جدًا، والعكس صحيح. على أن يسبق إنشاء اللجنة مباركة حكومية لهذا التوجه، ومن ثم يعقد كل محافظ لقاءات مع رؤساء الشركات لإقناعهم بهذا التوجه الوطني، وقد فتحنا حوارات مع بعض كبار المسؤولين في الشركات، واعتبروا اقتراحنا مُمكِنًا إذا ما كان مُقترنًا بمباركة حكومية من مجلس الوزراء.