المعتصم البوسعيدي
من "طيفِ الخيالِ الذي غدا يُحرك ما سكن"، ومن حكمةِ القُضاة "الذين أورثوا الفعل الحسن"، ومن بأسِ الولاة حُماة "النزيل ومن سكن" ولِدَ الطفلُ البهي على أصوات "اليامال" في "بلاد" صور العفية ابنًا بكرًا للعلامةِ السَّيد الفطن، والشاعر الذي لطالما سكب أبياته في قلبهِ عند "ذكر الأحبة والوطن".
نشأ السيد عبدالله بن حمد بن سيف البوسعيدي في كنفِ والده، تحت ظِلال العلم والمعرفة، مستلهمًا السؤدد من إرث أبائه وأجداده، فتفجرت مواهبه الوقادة تحت "شجرة المُعلم" وبين جدران "المدرسة السعيدية"، ثم طاف على "قاهرة المُعز" فشرب من نيلها العذب، ليعود إليها بعد ذلك بروح "أحمد بن النعمان"، وقبلها حمل شهادته مُعانقًا معشوقته الأبدية؛ تربة وطنه الطاهر، ليكون رجل دولة من الطراز الرفيع.
في السبعين من القرن العشرين ارتقى الشاب المهيب قابوس بن سعيد -طيب الله ثراه- سُدة الحُكم سلطانًا وعد بفجرٍ جديد، فاختار حكومته، وأسس سلطنة وطنه، ونهضة بلاده، وكان السَّيد عبدالله -آنذاك- الشاب اليافع الذي يشق طريق عمله في وزارة الأراضي، وهيئة المخطوطات العُمانية، ووزارة التراث القومي والثقافة، فوزارة العدل ثم وزارة البيئة ما بين الإدارة والموارد البشرية والمالية، حتى نال الثقة السامية؛ فاستلم حقيبة وزارة الإسكان في منتصف الثمانينيات، بعدها بثلاثة أعوام حلق بجناح العروبة إلى أرض قرطاج سفيرًا ومندوبًا، قبل أن تحط رواحله على أرض الكنانة سفيرًا دائمًا ومندوبًا بالجامعة العربية وسفيرًا غير مُقيم "لأرض النحاس" في شرق البحر الأبيض المتوسط، وقبل أن تبدأ الألفية الجديدة كان هو الربانَ الأول لجهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، حتى التقاعد مع بداية العقد الثاني من القرنِ الواحد والعشرين.
لم تتوقف رحلة العطاء لصاحب الفكر وقابض سراج المعارف، فكان التقاعدُ بدايةَ ألقِ السَّيد عبدالله في فضاء التعليم العالي فيَمم شطره إلى "بيضة الإسلام" نحو جامعتها الغراء نزوى، قبل أن يترأس مجلس أمناء جامعة الشرقية ويصافح يوم افتتاحها مجد السلطان المُجدِّد لنهضة العهد السعيد "فارتقي هام السماء"، وكما أنَّ سيرته كتبته حاضن الثقافة، "وصالون الفراهيدي"، ودار الأدباء والشعراء، فقد كتبت في جانبه الآخر حياةً لم تكن مفروشةً بالورود ومنعمة بريش النعام وهو ابن السادة النجباء؛ بل عاش متنقلاً مع والده في ربوع الوطن، وسكن منازل الطين، وتخضبت يداه بالأعمال الشاقة، ومالت عليه الدنيا فقدًا للزوج والأب والأم والابن "واسطة عقد الأبناء"، وهو حين ارتقى "علمًا فوقه نار"، ازداد تواضعًا فارتفع فيه منسوب النقاء.
لم ينس موطن "شيابه"؛ فقد رأيناه في "بيت الحديثة" على روابي "البستان" بسمد الشأن بجوار "بيت الخبيب" دار الولاية في عهد "الوالي الأكبر" إبان المؤسس الإمام أحمد بن سعيد، ولم تُغرِه زينةُ الدنيا ومتاعها، فهو كجده "الزاهد" بين فيافي الوحدة وعزلة التفكير بأرض "البُحير"، عايشناه في قرية الأخضر مسقط رأسه عند قلعتها وفلجها وسكتها وارفة الظلال، وفي ضواحي "الشرقية والمنيديس والخمسة والمنقوشة" أو مسترخيًا في "القويبل" قد زار الأهل وأوصل الرحم، تعفرت جباهه بغبارِ ميدان الرماية بفريق الأخضر، وتخضرت كفاه ببياض جوده، هو وشقيقه ورفيق دربه السَّيد خالد "نبع" السخاء الهادر، يناجيان القمر ببيت أبيهما الحاضن "لمكتبةٍ" تنتظر بزوغ الفجر، أو بيتهما الذي يعانق "الوادي" ويغني أنشودة المطر.
لا يضاهي قيمة أبي محمد العلمية والعملية إلّا إنسانه الباذخ، "عَوَّام" جمع عائلته في اسم مؤسسته، ترك الثرثرة وأتقن فن الصمت والكلام الموزون، وفِيٌ ولتسألوا صديق العمر "ابن دلمون عبد الكريم بوجيري" ورائعة "أنت أنا"، مهندس العلاقات، وناشر الثقافات، وهادئ الطبع موقد الشمع في الليالي الحالكات، مجتمعيٌ تشهد له الميادين، حتى وهو يسير إلى رحلته الأبدية، كان يُعزي الناس، ثم وبدون مقدمات رحل، فبكته جموع البسطاء قبل الأهل والأصدقاء، تضيق الحياة بالفقد، وتتسع بالأثر، وكيف والأثر سيد النبلاء.