"طوفان" أوضح الرؤية وأزال التضليل

 

د. قاسم بن محمد الصالحي

جريمة إبادة جارية في غزة، الحدث الأكثر بشاعة وغموضًا في عالم يدَّعِي حضارة التقدم، يدافع عن الإنسان، لا داعي للانتظار لكي نستذكر، أن القوى الاستعمارية عملت منذ زمن على التسلح بثورة وسائل التضليل، واقتحمت حاضرنا ومستقبلنا، لكن، على الرغم من محاولات تشويه وتعتيم قضايانا المحقة، تبقى الذكرى حاضرة في عقول الأجيال المتعاقبة، لذلك، ففي كل يوم يمر علينا في حضيض اليأس، يلوح طيف الحقيقة في الأفق ليقول لنا، "إنَّ بعد العسر يسرًا".

لكن، ليس هناك أكثر دناءة من أن تختصر الصهيونية العالمية صورة المجتمعات وأواصرها الإنسانية، وعلاقاتها الدولية والعالمية، بمفهومي الأمن والتجارة، وتعميم الاهتمامات بمستقبل الأمن الغذائي، وإطلاق يد الرأسماليين وأصولي الأسواق "الحرة"، وعولمة النظم الغذائية والاجتماعية، ويزداد الأمر شناعة عندما يكون الكيان الغاصب في فلسطين يُوغل في سفك دماء الأطفال والنساء والشيوخ. حقارته تظهر عندما ينبري لاتهام ضحاياه، ويُسوِّغ الإبادة الجماعية، هذا هو واقع الصهيونية في رمي ورم خبيث في جسد الأمة العربية، لقد قيل بعد عملية طوفان الأقصى على كتائب القسام، ما يرمي لبسط اللوم والتوبيخ، بل، وما يزيد على التضليل القابض على العقول ضلال إضافي.

لنأخذ نفسًا عميقًا، لنعد التفكير بهدوء، هل كنَّا نملك الإدراك؟، عندما دخلنا في عالم فقد فيه البشر ارتباطهم بمُحيطهم، بعدما سبق أن فقدوه في ما بينهم، عندما جاءت تراتيبية جملة من التغيرات، في مجال الاقتصاد والسياسة والثقافة والاجتماع والبيئة، بشكل تعدى نطاق كل تفكير مُنفرد، وعندما لعبت عوامل مختلفة في دفع مجتمعاتنا إلى الدخول في مفاهيم ومصطلحات جديدة، سطحت العالم، من دون استعدادات كافية، ومن دون رؤية جماعية، للتعامل بها مع تحديات ومخاطر تلك المُتغيرات، كون جلها جاءت من الخارج، على شكل ضغوط متزايدة ومتعددة الأشكال والأهداف، قلصت إلى حد كبير من هامش الاستقلالية والمبادرة الإقليمية، تصدعت الكتلة الجماعية، تفاقمت أزمة النظم الوطنية، فشلت المجتمعات، وتذرر بنيانها.

إن ضبابية رؤية قضايانا القومية، أنقصت من حدة الإبصار الجمعي العربي في محددات المسارات، طرحت حلولًا تلو الحلول للأزمات المُستعصية والخطيرة في الأمة، وتوقفت مجتمعاتنا على شفا الهاوية، وازداد الإقليم اضطرابًا، فأصبح مهتمًا ومتهمًا في آنٍ.

ووصول قضايا عالمنا العربي إلى مراحل من الاستعصاء، جاء نتيجة لنقض الحلول بعضها لبعض، وغياب الرؤية الجامعة، فكثرت الرؤى الخارجية، تكررت، أُجهِضَت كثير من الرؤى القومية. وهنا نسأل: لماذا تبدو محاولات الاستشفاء من الواقع العربي الممتد لقرون متطاولة صعبة وعسيرة؟ اكتشفت الشعوب العربية، كما الشعوب الحرة، في 7 أكتوبر 2023، وجود ورم خبيث في أرض تتكلم العربية، ملأ منطقتها بغبش نتانته، يجر العالم إلى حافة هاوية السقوط والانهيار القيمي والأخلاقي، يحاول بكل اجتهاد على مدى "76" عامًا أن يجعل من دول المنطقة كيانات هشة يسهل تقييدها، لا حراك جماعيًا ولا صوت، تفرَّد بكل واحدةٍ على حدةٍ، صار من الصعب اكتشاف الخطأ أو المشكلة، ولربما المعضلة في كونها مجرده من كل ما تستحق امتلاكه، لن تفهم كل دولة على حدة حتمًا الخلل؛ لأنَّ الورم كبر وانتشر.

إذن... لأن هناك ورمًا خبيثًا في الجسد، فلا بُد من جراحة تستأصله، حتى وإن طال الألم والوجع، ومن المؤكد أن اليوم لا يمكن إعادة عقارب الساعة إلى الوراء؛ فالطوفان قد بدأ، وأصبح مباشرة جزءًا من تاريخ الأحداث الذي سيُكتَب، بغض النظر عن تأثير وسيطرة التضليل والتحريف التي تسيطر على الفكر والذهن والرأي والتصور والتوقع للمستقبل، الذي تنشده الأطراف أو القوى التي تقف خلف الكيان الغاصب، والتأثير بأفكارها الصهيونية على الرأي العام العالمي، وتتلاعب به لتقنعه وتسخره، ثم تضلله وتجذبه إلى ساحتها، من خلال قدرة وسائلها وأدواتها التي تملكها على تشكيل الأفكار والمفاهيم والتصورات التي تخدم أهدافها البغيضة.

لقد كشف الطوفان حقيقة الكيان الغاصب لمن أراد أن يُبصرها، وما عملية 7 أكتوبر إلّا مجرد تفاصيل إثارة شُعلة الحقيقة ليس أكثر، ووضعها في مسارها.

تعليق عبر الفيس بوك