هل المال غاية أم وسيلة للحياة؟!

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

امتلاك المال من الضروريات الأساسية التي لا غنى عنها في مختلف نواحي الحياة التي نعيش فيها؛ فالمال الوسيلة الذي يمكن لأي إنسان في هذا الكون توظيفه لتحقيق الحياة الكريمة في هذه الدنيا، وذلك إذا توفر بالطرق السليمة وبالحلال وليس الحصول عليه بالغش والحرام؛ فنحن نحتاج المال للتعليم والعلاج وتوفير المسكن المناسب والسيارة، وغير ذلك من مُتطلبات العصر التي أصبحت شبه إلزامية للكل.

وعلى الرغم من ذلك، هناك من يصف المال بما يُقلل من قيمته ومكانته، والغوص في أبعاد فلسفية مع الانغماس في الزهد في الدنيا والجنوح إلى شظف العيش والاكتفاء بما يسُد الرمق والرغبة في اتخاذ الاكواخ والخيام مسكنًا بدلًا من البيوت والقصور التي لا تجدها بسهولة وقد تدفع ثمنًا غاليًا للحصول عليها! لا شك أن المال زينة الحياة الدنيا، ومن نعم الله على خلقه، وهو يصنع لاصحابه مجدًا وهيبة واحترامًا، ولعلنا هنا نتذكر ما قاله الإمام الشافعي عن عظمة المال:

"إن الدراهم في المواطن كلها // تكسو الرجال مهابة وجلالًا

فهي اللسان لمن أراد فصاحةً // وهي السلاح لمن أراد قتالًا

لكن المال يحتاج إلى إدارة سليمة في تنميته بالدرجة الأولى ثم آليه لإنفاقه بما يرضي الله، مثل إخراج زكاة المال وتسليمها لمستحقيها ضمن الفئات التي حددها الدين الحنيف، كذلك الحرص على الصدقة والوقف في سبيل الله والإنفاق للأقربين من الناس. وعلى الرغم من ذلك هناك من يحب المال ويحرص على الاحتفاظ به وكنزه للمستقبل، ويصبح المال سيدا؛ ويتحول التاجر أو الثري إلى خادم للمال، وهذه الغرئزة ارتبطت بمعظم أصحاب الملايين في مجتمعاتنا، ولكن هذه الثروات لا تستمر، فهناك من ينجح في جمع المال وتأسيس إمبراطوريات من الشركات والمحال التجارية، ثم تأتي الأجيال الجديدة من الأبناء والأحفاد وتجد هذه الأموال مُتاحة دون عناء، فتقوم بتبديدها وإنفاقها في سنوات قليلة؛ فالجيل الأول يؤسس المشاريع التجارية، والجيل الثاني يُنميها ويُطوِّرُها، ثم تأتي الأجيال الثالثة أو الرابعة ويصرفونها على الملذات والرفاهية غير المبررة، لكونهم لم يتعبوا في جمع تلك الثروة ولا يعرفون كيف جُمِعَتْ!

المواطن العربي البسيط يُعاني الأمرّيْن عند طرق أبواب الجهات المختصة التي يُفترض أن تُوفِّر له حقوقه الأساسية للحصول على الأموال اللازمة التي مصدرها- عادة- الوظيفة الثابتة كحق أصيل من حقوق الإنسان في هذا الزمن، ولكن هناك دائمًا تحديات تتذرع بها الحكومات في بعض الدول، كقلة الموارد وعدم القدرة على القيام بكل المتطلبات الضرورية للمجتمع، والسبب الحقيقي هو الرغبة في انفراد الطبقة العُليا من المتنفِّذين بالأموال والمناصب دون غيرهم لكي تضمن لهم توزيع تلك المزايا والثروات على عدد قليل من الناس، بينما يبقى السواد الأعظم من الناس فقراء ومحتاجين، مما يترتب على ذلك ظهور التوترات والقلاقل في المجتمع، كما حصل فيما يعرف بـ"الربيع العربي" عام 2011؛ حيث انتفضت شعوب عربية على أنظمة حاكمة، ثم تحوّل ذلك إلى زلزال غير مسبوق في الوطن العربي من المحيط إلى الخليج؛ إذ طالب جميع الذين خرجوا إلى الشوارع بمحاربة الفساد، وإعادة توزيع الثروة على المستحقين من أبناء الطبقة الكادحة، ولكن القليل من المسؤولين قد تعلموا من تلك العبر والدروس. ومن المفارقات العجيبة في بلاد العرب تحوُّل المسؤول إلى واحد من أصحاب الثروات الطائلة بعد سنوات قليلة من توليه المنصب الوزاري، وذلك من الهبات التي يحصل عليها من السلطات العُليا، كما تظهر مشكلة أخرى تتعلق بالجمع بين كرسي الوزارة والاستمرار في ممارسة التجارة؛ حيث تتضارب المصالح الخاصة والعامة.

وحول النزاهة ومنع تضارب المصالح واستغلال الوظيفة الحكومية لجمع المال، أتذكر بعض المواقف الاستثنائية النادرة التي حصلت في هذا المجال؛ ففي عقد السبعينيات من القرن الفائت، عُيِّنَ ابن شقيق ملكٍ أميرًا لإحدى المناطق في بلد عربي، وبعد عدة أشهر من تولي الأمير مهامه انشغل بالتجارة؛ إذ أصبح وكيلًا لواحدة من أشهر وكالات السيارات في العالم، فإذا بعمه الملك يكتب له الرسالة التالية "اختر بين الإمارة والتجارة.. لا يُمكن لكم الجمع بين الوظيفتين، فإنَّ ذلك مفسدة.. وأضاف اقترح لكم ترك فرصة لأبناء المنطقة؛ ليتولى أحدهم وكالة السيارات بدلًا منك".

في واقع الأمر لا يُوجد بلد فقير في هذا العالم، لكن يوجد أشخاص يجنحون إلى الأنانية وحب الانفراد بالمال العام وجمع الملايين لكونهم في السُلطة، ودائمًا هناك أمثلة لدول تُصنَّف بأنها كانت فقيرة، لكونها تدار من حكومات غير رشيدة؛ ولكن وصول مؤسس سنغافورة (لي كوان يو) إلى السلطة في منتصف القرن الماضي- والذي شبّه أسلوبه في محاربة الفساد في بلده من أعلى القمة؛ بكنس الدرج من الأعلى- من أقوى نماذج محاربة الفساد في العالم. لقد أصبحت هذه الجزيرة الصغيرة في شرق آسيا؛ واحدة من أفضل الدول المتقدمة، ومسجلة في نفس الوقت بأنها تضم أكبر عدد من المواطنين الذين يملكون الملايين. وفي مطلع الألفية الجديدة جاء الرئيس الرواندي (بول كاغامي) الذي كانت بلده تُعاني من الحروب الأهلية والفقر، ثم تحولت إلى أكبر سوق مفتوح في أفريقيا، وسجلت هذه الدولة التي تفتقد للموانئ والمنافذ البحرية؛ أكبر نمو اقتصادي في العالم؛ وذلك بفضل تطبيق مبدأ من أين لك هذا؟ فقد ذهب الرئيس المنتخب وزوجته عند تولي الرئاسة إلى إدارة الرقابة المالية في بلده لكي يكشفا عن أملاكهما المتواضعة، ثم طلب من 5 آلاف موظف يعملون في الوظائف العُليا بالقيام بذلك أمام هيئة الرقابة المالية لجمهورية رواندا.  

وفي الختام.. لا شك أنَّ المال يُشكِّل عصب الحياة ولكنه في نفس الوقت ليس غاية أبدية بحد ذاته؛ فهو فقط وسيلة لتحقيق متطلبات الحياة الكريمة لأي إنسان في هذا الكون، ومن المؤسف حقًا اهتمام الأشخاص؛ بل وبعض الحكومات باكتناز المال على حساب حاجة المجتمع؛ فقد سقطت أنظمة كثيرة عبر التاريخ بداية من الدولة العبّاسية التي سلَّم فيها الخليفة المستعصم بالله لهولاكو قائد التتار، خزائنَ بغداد، التي هي عبارة عن جبال من الذهب والفضة والنفائس، ولكن لم يشفع له ذلك؛ بل ديس تحت أقدام جنود التتار حتى الموت.

يتكرر المشهد في هذه الأيام من خلال إيداع المليارات من الدولارات من الأموال العربية في بنوك الدول الغربية بدلًا من استثمارها في تنمية الاقتصادات وخلق فرص عمل للشباب، وتأسيس مصانع ومشاريع اقتصادية مُتنوِّعة، وعلى الرغم من ذلك فإن العرب أهم الأكثر إنفاقًا على شراء السلاح في العالم! فقد خلصت الدراسات إلى أن الحكومات العربية أنفقت خلال آخر 15 سنة أكثر من ألف مليار دولار، وعلى الرغم من ذلك، فإنَّ العرب أكثر ضحايا الحروب والتعذيب! بسبب قمع بعض الأنظمة الاستبدادية لشعوبها، واستخدام السلاح لحماية الكراسي وليس للدفاع عن المقدسات والأوطان.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري

الأكثر قراءة