"كَشْف السِّتَار عن حَالة ظَفَار" للشيخ عيسى الطائي قاضي قضاة مسقط (6)

 

 

تحقيق- ناصر أبوعون

قال الشيخ القاضي الأجَلّ عيسى الطائي: [(أمَّا بَعْدُ.. فِإنّ الأَسْفَارَ طَالَمَا ذَكَرَهَا بِالثَّنَاءِ الذَّاكِرونَ، وَوَصَفَهَا بَجَمِيلِ الإِطْرَاءِ الوَاصِفُونَ؛ فَمَدَحَهَا مَنْ عَلَتْ مُرُوءتُهُ، وَسَمَتْ هِمَّتُهُ، مَدْحًا جَزِيْلا، وَأَثْنَى عَلَيْهَا مَنْ شَمَخَتْ نَفْسُهُ إِلَى الْعَلْيَاءِ ثَنَاءً جَمِيْلا، فَمِنْهُمْ مَنْ شَبَّهَ صَاحِبَهَا بِالدُّرِّ إِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنْ قَعْرِ البِحَارِ لَمْ يَكُنْ بِتِيْجَانِ المُلُوكِ شَهِيْرَا، وبَعْضُهُمْ شَبَّهَ صَاحَبَهَا بِالْهِلَالِ لَوْ لَمْ يَسْرِ لَمْ يَصِرْ بَدْرًا منيرا، وَحسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {سَافِرُوا تَصِحُّوا وَتَغْنَمُوا}. وللهِ دَرُّ القَائِل: [(قَلْقِلْ قَلُوصَكَ بِالْفَلَا* و دَعْ الغَوَانِي بالقُصُورِ/ لَوْلَا التَّنَقُّلُ مَا ارْتَقَتْ* دُرَرِ البُحُورِ عَلَى النُّحُورِ/ القَاطِنُون بِأَرْضِهِم* عِنْدِي كَسُكّانِ القُبُورِ)]. وَقَدْ أَجَادَ أَبُو تمَّام حَيُثُ يَقولُ:[(وَطُوْلِ مُقَامِ الْمَرْءِ بِالْحَي مُخْلِقٌ* لِدِيْبَاجَتَيهِ فَاغْتَرِبْ تَتَجَدَّدِ/ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّمْسَ زِيْدَتْ مَحَبَّةً* لَدَى النَّاسِ إِذْ لَيْسَتْ عَلَيِهِم بِسَرْمَدِ/ وَلَمْ تُعْطِنِي الأَيَامُ نَوْمًا مُسكَّنًا* أَلَذُّ بِهِ إِلَّا بِنَومٍ مُشَرَّدِ)].

[(أَمَّا بَعْدُ)]

فلّما انتهى الشيخ القاضي الأجَلُّ عيسى الطائيّ من التمهيد في مقدمة المخطوط، وبعد الحمد والثناء؛ قال: [(أَمَّا بَعْدُ)]، وهذا الأسلوب تقليد عربيّ اقتدى به الخطباء والمُصَنِّفون الأوائل في متابعة السنّة النبويّة الشريفة، ومن الاستفتاحات التي دأب عليها رسولنا الأكرم محمد –صلى الله عليه وسلم-، وشواهدها متواترة وكثيرة في كُتِبِ الصِّحاح والأسانيد المتوارثة. ونسوق منها هنا برواية عبد الله ابن عبّاس:{خَرَجَ رَسولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم - في مَرَضِهِ الذي مَاتَ فِيهِ، بمِلْحَفَةٍ قدْ عَصَّبَ بعِصَابَةٍ دَسْمَاءَ، حتَّى جَلَسَ علَى المِنْبَرِ، فَحَمِدَ اللَّهَ وأَثْنَى عليه، ثُمَّ قالَ: (أمَّا بَعْدُ)، فإنَّ النَّاسَ يَكْثُرُونَ ويَقِلُّ الأنْصَارُ، حتَّى يَكونُوا في النَّاسِ بمَنْزِلَةِ المِلْحِ في الطَّعَامِ، فمَن ولِيَ مِنكُم شيئًا يَضُرُّ فيه قَوْمًا ويَنْفَعُ فيه آخَرِينَ، فَلْيَقْبَلْ مِن مُحْسِنِهِمْ ويَتَجَاوَزْ عن مُسِيئِهِمْ فَكانَ آخِرَ مَجْلِسٍ جَلَسَ به النبيُّ صَلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ}(1)

الجزء الثاني من مقدمة مخطوط كشف الستار للشيخ عيسى الطائي.jpg
 

ومعنى [(أَمَّا بَعْدُ)] أيْ:"مهما يَكُن من شَيءٍ بَعْدُ فإن الأسفار...إلخ"، والتقديرُ: "وبَعْد مَا قَدَّمْتُ مِنَ البيانِ عن السَّفَرِ وفَوائده؛ فِإنَّ كذا وكذا"، ومن الخطأ الشائع أنّ العرب استعملوا هذا التركيب للانتقال من موضوع إلى آخر، والتنويع بين الأساليب. وهذا الرأي فاسد قولا واحدًا، وليس من بلاغة اللسان العربيّ المُبين، وإنّما اقتدى فيه الشيخ عيسى الطائيّ وغيره من أهل اللغة والبيان – قُدامى ومحدثين – بالنبيّ الأعظم محمد – صلى الله عليه وسلم – سيرًا على النهج المأثور في خُطَبه - وهو أفصح البُلغاء- بُغيةَ الانتقالِ السَّلسِ من "المقدمة والاستفتاح إلى المقصود بالحديث"(2)، وهو أسلوبُ شرطٍ وَجَبَ اقترانُ جوابِه بالفاء؛ لذلك كتبَ الشيخ الطائيّ – رَحِمَهُ الله: [(أمَّا بَعْدُ.. فِإنّ الأَسْفَارَ)].

وقد أفاضَ العلماء القول في استعمالها بلاغيًا؛ فقِيل: "[(أَمَّا بَعْدُ)] زيادة يقتضيها النصُّ للفصل بين الخُطبة والدِّيباجة؛ لأنّ المتكلم إذا ابتدأ في أمرٍ ذي شأنٍ بذكر الله وتحميده، ثُم أراد أن يخرج من ذكرهما إلى الغرض المسبوق له، فَصَلَ بينه وبين ذِكر الله بكلمة [(أَمَّا بَعْدُ)]، وهو يُسمى في علم البديع (فَصْلُ خِطاب)، ويأتي على ثلاثة أقسام: "اقتضابٌ" و"تَخَلُّصٌ"، و"اقتضابٌ قريبٌ من التَّخلّص"(3)، وفي هذا المَقَام من مخطوطة "كَشْف السِّتَار عن حَالة ظَفَار" للشيخ عيسى الطائيّ جاءت [(أَمَّا بَعْدُ)] مطابقة للقسم الأول من (فَصْل الخِطاب)؛ ففيها (تَخَلّصٌ)؛ حيث اشتملت على "وجود مناسبة تامّة بين طرفي الكلام" الذي سبق تركيب [(أَمَّا بَعُدُ)]، وهو بمثابة تمهيد وإجمال في خُطبة المخطوط، وبين ما تلاها من تفصيل وشرح وتوضيح.

[الثناء والإطراء]

وقول الشيخ القاضي الأجَلُّ عيسى الطائيّ [(الأَسْفَارَ طَالَمَا ذَكَرَهَا بِالثَّنَاءِ الذَّاكِرونَ، وَوَصَفَهَا بَجَمِيلِ الإِطْرَاءِ الوَاصِفُونَ؛ فَمَدَحَهَا مَنْ عَلَتْ مُرُوءتُهُ، وَسَمَتْ هِمَّتُهُ، مَدْحًا جَزِيْلا، وَأَثْنَى عَلَيْهَا مَنْ شَمَخَتْ نَفْسُهُ إِلَى الْعَلْيَاءِ ثَنَاءً جَمِيْلا)]، ففيه إشارة للسّابقين الأولين الذين مدحوا السَّفر وأثنوا على المُسافرين، ومنه قول الثّعالبيّ:"إن الله تعالى لم يجمع كل منافع الدنيا في أرضٍ، بل فرقها وأحوج بعضها إلى بعضٍ. فالمسافر يسمع العجائب، ويكسب التجارب، ويجلب المكاسب. والسفر يشد الأبدان، ويُنشِّط الكسلان، ويُسْلِي الثكلان، ويطرد الأسقام، ويُشَّهي الطعام. ومن فضل السفر أن صاحبه يرى من عجائب الأمصار، وبدائع الأقطار، ومحاسن الآثار، ما يزيده علماً بقدرة الله تعالى وحكمته، ويدعوه إلى شكر نعمته"(4).

وإذا تأمّلنا في لفظتي [(الثناء والإطراء)]، انكشف لنا أن مصطلح (الإطراء)، وإن كان مذمومَ الاستعمال بين الخواص والعوام ومَشوبًا بالنّفاق في ذاكرة التداول اليوميّ لمفردات اللغة العربيّة وخاصةً إذا قُصِدَ به مدح الأشخاص. إلا أنَّ الشيخ عيسى الطائيّ لم يُجاوز الحدَّ، ولم يقع في حبائل المُبالغة، ونقل استعمال لفظ (الإطراء) من مداهنة الأشخاص إلى الترغيب في فضيلة السَفر، وتشبيب القُراء بالترّحل والانتقال والسّياحة في البلدان، وتحصيل الفائدة والعِبرة.

صورة الشيخ عيسى بن صالح.jpeg
 

[المُروءةِ والهِمّة]

ثُم ضَمَّ الشيخ الطائيّ مُصْطَلَحَي [المُروءةِ والهِمّة] في إهاب واحد بقوله: [(عَلَتْ مُرُوءتُهُ، وَسَمَتْ هِمَّتُهُ)]؛ جمع فيها بين فَنَّي الازدواج والجِناس في صورة تزيينيّة غير مبالغ فيها. والهِمَّةُ والمُروءة خُلَّتانِ متأصلتان في النفس الإنسانية السَّويّة، وحيازتهما تكون بالفِطرة التي جَبَلَ الله عليها الآدميين، وأورث لكلِّ عاقلٍ قِسمةً وكِفلًا منها؛ ولكن على قَدْرِ حاجته هِبَةً من الله له. وهاتان الخُلّتان تتأصلّان في الشخصيّة بالدُّربة والمِران، وتَوَفرّهما في كل نَفْسٍ من مُقتضيات الإقدام على التغرّب والهجرة، والمجازاة إلى الأقطار، والتنقل بين البُلدان، وما اجتمعت (المُروءة والهِمّة) في بَشَرٍ إلا زادته عزًّا ومِنْعَة.

واتُفِّقَ على تعريف[(المروءة)] "بأنها آدابٌ نَفْسانيُة تحملُ مُراعاتُها الإنسانَ على الوقوف عند مَحاسنِ الأخلاقِ وجميلِ العادات" وقيل: كان قُسُّ بنُ سَاعِدَةَ يَفِدُ على قيصرَ، وَيَزُورُهُ؛ فسأله قيصرُ يومًا: ما أفضلُ المروءةِ؟ فأجابه قُسُّ: استبقاءُ الرّجلِ ماءَ وَجْهِهِ"(5).

وإذا ما تفكّرنا في معنى (الهِمّة) وجدناه يأتي في المُعجم العربيّ على خمسة وجوهٍ شائعة الاستعمال إلا أنّ المعنى الذي قصده الشيخ عيسى الطائيّ في سياق حديثه عن فضيلة السَّفر قد انحسر في ثلاثة وجوه منها فقط؛ تتكامل في مقاصدها وتتعاون في دلالاتها، ويسند بعضها بعضا؛ أمّا الوجه الأول (للهِمَّة) فمقصوده: (العَزْمُ القويُّ)، وشاهِدُه الشّعريّ ورد في بيت عَمرو بن قَميئة البَكْريّ، يذكرُ ملوك الغَساسنة قائلًا:" فَتَتَوَّجُوا مُلْكًا لَهُمْ (هِمَمُ)* فَفَنُوا فَنَاءَ أَوَائِلِ الأُمَمِ"(6)، وأمّا الوجه الثاني (للهِمَّة) الذي قصده الشيخ الطائيّ فمُراده: (القوة الراسخة في النفس الطالبة لمعالي الأمور، الهاربة من خسائسها)، وشاهده الشعريّ نقرأه في بيتِ حاجز بن عوف الأزدِيّ الذي يقول فيه: "إِذَا قَلَّ مَالِي ازْدَدْتُ فِي (هِمَّتِي) غِنًى* عن النَّاسِ والغَانِي بِمَا يَنَالُ قَانِعُ"(7)، وأمَّا الوجه الثالث والأخير (للهِمّة) في مقصود الشيخ الطائيّ فيأتي بمعنى(الشُّغل الشَّاغل والعِناية)، ونعثر على شاهده في قول الصَّحابيّ أبو حميد السَّاعديّ الخزرجيّ –رضي الله عنه - :"أَنَا أَعْلَمُكُم بِصَلاةِ رَسُولِ الله – صلى الله عليه وسلم - وكَانَتْ مِنْ هِمَّتِي"(8).

[التَّاج فارسيّة]

ثُمّ قال الشيخ القاضي الأجَلُّ عيسى الطائيّ [(فَمِنْهُمْ مَنْ شَبَّهَ صَاحِبَهَا بِالدُّرِّ إِنْ لَمْ يَنْتَقِلْ مِنْ قَعْرِ البِحَارِ لَمْ يَكُنْ بِتِيْجَانِ المُلُوكِ شَهِيْرَا)]واصفًا راكب الأخطار، وصاحب الأسفار، والمترّحل بين الأقطار بالدُّرّ والياقوت والمَرجان الراكد في قيعان المحيطات والبحار بين الأصداف والرمال، ولولا انتقاله (يَخْرُجُ/ في رواية حفص عن عاصم) و(يُخْرَجُ/برواية ورش عن نافع) من محلّته وبيئته ما عظُمت قيمته.

وفي قول الشيخ الطائيّ: (تِيجَان الملوك) ومفردها (تاج) لطيفة لغويّة؛ حيث تبيّن للباحثين في تاريخ اللغات أنّ مفردة (التَّاج) فارسيّة الأرومة والجذور، وانتقلت إلى اللغة العربية من طريق اللهجات السّريانيّة والبابليّة، وتُنْطق في الفهلويّة (تاگ)، وتُرْسم في الآرامية هكذا ܬܳܓܳܐ (تاجا) أفرام: تاج، وتُنْطقُ (توغو) Togho، ومعناها غِطاء الرأس المنسوج من الصُّوف المُرصّع بالجواهر النفيسة والأحجار الكريمة، وهو يقابل (العِمّة)، و(العِمَامة) في العربيّة لفظًا ومعنى، ونعثر على شاهده الشعريّ في قول قَبيصَة بنِ نُعَيم الأسَديّ حُجْرًا مَلِكِ كِنْدَة:"كانَ لِحُجْرٍ التَّاجُ والْعِمَّةُ فوقَ الجَبينِ الكَريْمِ"(9).

[المسافر هلال]

وفي قول الشيخ القاضي الأجَلّ عيسى الطائيّ:[(وبَعْضُهُمْ شَبَّهَ صَاحَبَهَا بِالْهِلَالِ لَوْ لَمْ يَسْرِ لَمْ يَصِرْ بَدْرًا منيرا)]، تصوير للمُسافر وهو يضرب في الأرض يبتغي من فضل الله، فيخالط الناس من سائر الأجناس، ويصارع الأهوال، ويحط الرحال في السهول والوديان، ويطلب الراحة في الآكام، ويطّلع على الفنون والآداب، ويرصد تراث الشعوب وأعرافها، ويتحدث إليها بلسانها؛ وهو في ذاك الحال أشبه بـ(الهلال) الذي يُولد ضئيلا لامعًا، ثُمّ يُرَى بعد الغروب في رُبُعِ دورته الشهريّة الأولى، ثم يَحْدَودِب في اليوم الثامن من الشهر، ثم يقابل الشمس في اليوم الرابع عشر ويصير بدرًا منيرًا. وهذه الأطوار وما يحصل معها من فوائد تحيلنا  إلى مطالعة الحكمةَ من السَّفر التي فَصَّلَها الإمام الشافعيّ في إحدى قصائده القِصَار وأجملها عددا في خمس فوائد هي:"تَفَرُّجُ همٍّ، واكتسابُ معيشةٍ وعِلمٌ، وآدابٌ، وصُحْبَةُ مَاجدِ"(10).

[معنى وإعراب (حَسْبُ)]

وفي قول الشيخ القاضي الأجَلّ عيسى الطائيّ:[(وَحْسْبُكَ مِنْ ذَلِكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ: {سَافِرُوا تَصِحُّوا وَتَغْنَمُوا})]. وقفتان؛ أمّا الوقفة الأولى؛ فمع قوله:[(وحَسْبُكَ قوله)] على مماثلة قول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (سورة الأنفال، الآية:64) "قال الزجاج: «حسب اسم فعل والكاف نصب والواو بمعنى مع»، فعلى هذا يكون الله فاعلا لحسبك، وعلى هذا التقدير يجوز في: (من ذلك) أن تكون معطوفا على الكاف لأنها مفعول باسم الفعل لا مجرور، لأن اسم الفعل لا يضاف، إلا أن مذهب الزَّجَّاج خطأ لدخول العوامل على (حَسْبُك)، تقول: (بِحَسْبِكَ دِرْهمٌ)، وقال تعالى: «فإنَّ حَسْبَكَ اللهُ» ولم يثبت كونه اسمَ فعلٍ في مكان فيعتقد فيه أنه يكون اسم فعل واسما غير اسم فعل كـ(رويد)"(11). و"حَسْبُ" لها استعمالان عند النُّحَاة في مدرسَتَي القُدامَى والمُحدثين: أمّا الاستعمالُ الأول؛ فهي تأتي اسمَ فاعلٍ من (كَفَى) ومعناها "كَافٍ"، وتُستعمَلُ مُضافةً فتكونُ نَعْتاً لِنَكَرةٍ، لأنَّها لمْ تتصرّفُ بالإضافةِ حَمْلاً عَلى ما هي بِمعنَاه،. وأمّا الاستعمال الثاني فتأتي (حَسْبُ) بمعنى (لا غَيرَ) فَتُجَرَّدُ منَ الإضافةِ اللفظيّةِ ويُنْوَىَ بِها الإضافةُ المعنويّةُ، وتكونُ حينئذٍ مبنيةً على الضَّمِّ"، وبناءً على ما تقدم فإن جملة: [(وحَسْبُكَ قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ)] الواو في أولها للابتداء، (حسبُ) مبتدأ مرفوع، و"الكاف": ضمير مبني في محل جر مضاف إليه، و(قولُه) تعرب خبرًا مرفوعًا وعلامةُ رفعه الضَّمة الظاهرة على آخره ومعنى الجملة: (ويكفيك قَوْلُهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ)، أي: قول النبيّ محمد –صلى الله عليه وسلم-:{سَافِرُوا تَصِحُّوا وَتَغْنَمُوا}.

[سافروا تَصِحُّوا وَتَغْنَمُوا]

أمَّا الحديث النبويّ الذي أورده الشيخ الطائيّ للاستشهاد بها على فوائد ومغانم السفر، فهو في حقيقته صيغة مجتزأة من النصّ التامّ للحديث في مسند الإمام الربيع بن حبيب، وتمامُ نصِّه بو عبيدة قال: بَلَغَنِي عَنْ رَسُولِ الله-صلى الله عليه وسلم- قالَ:صَلُّوا تَنْجَحُوا وزَكُّوا تُفْلِحُوا وصُومُوا تَصِّحُوا وسَافِرُوا تَغْنَمُوا}(12). وبالبحث في الأسانيد وُجِدت صيغٌ عديدة ومزيدة لهذا الحديث في عدة روايات، نذكر منها: {سَافِرُوا تَصِّحُوا واغْزُوا تَسْتَغْنُوا}، وذلك من طريق أبي هريرة وأبي سعيد الخدريّ وابن عمر وابن عباس - رضي الله عنهم - مرفوعًا إلى النبي –صلى الله عليه وسلم-، وورد من رواية صفوان بن سليم ومحمد بن عبد الرحمن بن ثوبان مرسلا، وورد موقوفا على عمر رضي الله عنه(13).

[للهِ دَرُّ القَائِل]

وقول الشيخ القاضي الأجَلّ عيسى الطائي [(وللهِ دَرُّ القَائِل)]، فهو مأخوذ من المثل العربيّ السَّائر على الألسنة وفي بطون الكتب والنوادر، وقد استعملته العرب على ضَرْبينِ اثْنينِ: أمّا الضَّربُ الأولُ:" قال به الأصمعيُّ وغيره: أصل ذلك؛ أنّه كان إذا حُمِدَ فِعْلُ الرجل وما يجيء منه، قِيل: لله دَرُّكَ؛ أيْ ما يجيءُ منك بمنزلةِ دَرُّ النَّاقةِ والشَّاة، ثم كثُر كلامهم حتى جعلوه لكل ما يُتَعجّبُ منه"(14)، ومن شواهده؛ قول ابن الأحمر الباهليّ على وزن (البسيط):[(بَانَ الشَّبَابُ وأَفْنَى ضِعْفَه الْعُمُرُ* للهِ دَرِّي فَأَيَّ الْعَيْشَ أَنْتَظِرُ(15))].

 وأمّا الضَّرْبُ الثاني في استعمال (لله دَرُّكَ) في التَّعجُّب؛ قال فيه الفراء: قد تتكلم العرب بها بغير (الله)، فيقال: (دَرُّ درُّكَ) عندَ الشَّيءِ يُمْدَحُ، ومنه قول الأعشى على وزن الخفيف:[(درَّ درُّ الشبابِ والشَّعْرُ الأسْــــ*ـودِ والضَّامِراتِ تحتَ الرِّحَالِ(16))].

[عِلّة التصحيف]

وبالبحث وراء الاستشهادات الشعريّة التي يتمثَّل بها الشيخ عيسى الطائيّ وجدنا فيها تصحيفًا "وهو تحويل الكلمة عن الهيئة المتعارفة إلى غيرها"(17) وقد اتسعت مساحة هذه الظاهرة في عصر النسخ والتدوين، أمّا عن التصحيف الذي منيت به مخطوطة "كشف السِّتار عن حالة ظَفار"، فهو واقع لعلل عديدة؛ إِمَّا لكون الشيخ عيسى الطائيّ كان يُملي على الناسخ من حافظته دون معاودة النظر في المدوّنات بالمراجعة والاستدراك فيما خطّ بريشته، وربّما يرجع تفسيرها لاعتماد الشيخ الطائيّ على السَّرد المباشر من الذاكرة، واستدرار حافظته في حضرة من يُملِي عليه، وهذا فضلا عن استحيائه النقل من الكتب والقراطيس، وهناك تفسير آخر ربّما يرجع لطبيعة القصيدة العربية القديمة التي تقوم في بنائها المِعماري على (وحدة البيت)، وهذه السمّة الفنيّة تُجوِّز للشاعر والقاريء والحافظ على السواء التقديم والتأخير والتبديل المكانيّ أو البدء بما يستطيب له من الأبيات وما يألف من المعاني.

[أبيات صَرّ دُرّ]

ساق لنا الشيخ القاضي الأجَلّ عيسى الطائيّ ثلاثة أبيات غير منسوبة لقائلها، تحثُّ على السياحة والسفر، وتبيين فوائده، والحكمة من الترحّل بين الديار والأقطار. وبالبحثِ اتضح الآتي:

أولا- في الأبيات الثلاثة تصحيفٌ وقد ورد التصحيف في هذا المقطع من مخطوطة "كَشْف السِّتار في حالة ظَفَار" على صورتين اثنتين: أَمَّا الصورة الأولى: إبدال الشيخ عيسى الطائيّ لفظة مكان أخرى: مثاله:"قلوصك"، وهي في ديوان الشاعر (ركابك)، و"بالقصور" أصلها (للقصور)، "التنَّقل"، وفي النسخة الأصلية (التَّغَرُّب)، وشطر البيت الثالث"القاطنون بأرضهم"، وأصله (فمحالفو أوطانهم)، وفي الشطر الثاني من البيت الثالث قال: "عندي كَسُّكان القبور"، وأصلها في ديوان الشاعر: (أمثال سكان القبور)، و"ما ارتقت" أصلها(ما ارتقى)، "درر البحور" في الأصل(دُرّ) وأمّا الصورة الثانية من التصحيف فهو تغيير الترتيب المكانيّ للأبيات فبمقارنة أبيات المخطوط بديوان الشاعر نجد الشيخ عيسى الطائي يُقدّمُ البيت الثالث على الثاني. في هذا المقطع الشعريّ. [(قَلْقِلْ قَلُوصَكَ بِالْفَلَا* ودَعْ الغَوَانِي بالقُصُورِ/ لَوْلَا التَّنَقُّلُ مَا ارْتَقَتْ* دُرَرِ البُحُورِ عَلَى النُّحُورِ/ القَاطِنُون بِأَرْضِهِم* عِنْدِي كَسُكّانِ القُبُورِ)].

ثانيا - هذه الأبيات وردت في ديوان الشاعر العباسيّ (صَرَّ دُرّ) وكان أبوه لبُخْلِه يُلَّقَبُ بين الناس في عصره بـ(صَرَّ بَعْر)؛ "لمّا نبغ ولده الرئيس أبو منصور عليّ بن الحسن بن عليّ بن الفضل الكاتب، وأجاد في الشعر، وكان يُعرف بين الناس بـ(ابن صَرَّ بَعْر)، وقد هجاه أبو جعفر البياضيَّ بقوله:[( لَئِنْ لَقَّبَ النَّاسُ قِدْمًا أَبَاكَ* وسَمَّوْهُ مِنْ شُحِّهِ "صَرَّ بَعْرَا"/ فِإنَّكَ تَنْثُرُ مَا "صَرَّهُ"* عُقُوقًا لَهُ وتُسَمِّيهِ شِعْرا)].

 فلمّا التقى الشاعرُ المُعَيَّرُ بأبيه (صرَّ بَعْر) وزيرَ الدولة العباسية قوام الدين أبو عليّ الحسن بن إسحاق بن العباس الطوسيّ؛ الملقّب بـ(خواجة يزك) أي نظام الملك، وأفاض في مدحه وأثنى على العُباسيين بقوله عنهم: ،،العباسيون جاءوا بقدر من الله إلى الأمّة، ومعاركهم تشبه معركة بدر، وهم سادة نُجباء أتقياء لأنهم بضعة من جسم النبوّة، وهم بمنزلة القلب من الصدر، والعين من الرأس،، هشَّ وبَشَّ له نظامُ الملك وقرّبه في مجلسه، وقال له: أَنْتَ "ابنُ صَرَّ دُرّ" فَلَزِمَهُ هذا اللقبُ إلى أن توفي مُترديًّا في حفرةٍ على طريقه إلى خُراسان سنة 456 هـ"(18).

والنصُّ الأصلي للأبيات التي أوردها الشيخ القاضي الأجَل عيسى الطائي في مطلع مخطوطة "كشف السِّتار في حالة ظَفار" مثبتة بديوان (صَرَّ دُرّ)(19) وهي على النحو التالي:[(قَلْقِلْ رِكابَكَ بِالْفَلَا* و دَعْ الغَوَانِي للقُصُورِ/ فمُحَالِفِو أوطانِهم* أَمْثَالُ سُكَانِ القُبُور/ لولا التغرُّبُ مَا ارْتَقَى* دُرُّ البُحُورِ على النُّحُور)].

[تستجير الدمع]

وقال الشيخ القاضي الأجَلّ عيسى الطائيّ:[(وَقَدْ أَجَادَ أَبُو تمَّام حَيُثُ يَقولُ)]: [(وَطُوْلِ مُقَامِ الْمَرْءِ بِالْحَي مُخْلِقٌ* لِدِيْبَاجَتَيهِ فَاغْتَرِبْ تَتَجَدَّدِ/ أَلَمْ تَرَ أَنَّ الشَّمْسَ زِيْدَتْ مَحَبَّةً* لَدَى النَّاسِ إِذْ لَيْسَتْ عَلَيِهِم بِسَرْمَدِ/ وَلَمْ تُعْطِنِي الأَيَامُ نَوْمًا مُسكَّنًا* أَلَذُّ بِهِ إِلَّا بِنَومٍ مُشَرَّدِ)].

وهذه الأبيات التي أوردها الشيخ عيسى الطائي للاستشهاد بها على الحكمة من التغرّب والهجرة في بلاد الله وما ينجم عنها فائدة هي من مطولات (أبي تمّام) وردت في ديوانه تحت عنوان: (غدت تستجير الدمع خوف نوى غدِ)(20)، وهي من البحر الطويل، وعدد أبياتها 55 بيتًا، ويمدح فيها (أبا سعيد محمد بن يوسف الثَّغريّ الطائيّ الحُميديّ)، وهي من بين 25 قصيدة مدحيّة وبإجمالي 653 بيتا اختصَّ بها أبو تمام (أبا سعيد الطائيّ)(21)؛ غير أنّه أورد الأبيات فيها تصحيف على صورتين: أمّا الصورة الأولى من التصحيف؛ فكانت بإبدال الشيخ عيسى الطائيّ لفظة بأخرى في البيت الثالث فأزاح الجملة الاسميّة المؤكدة بـ"إنّ" في الشطر الأول من البيت الثالث والتي يقول فيها أبو تمّام "فإني رأيتُ الشَّمْسَ" وأورد مكانها من عنديّاته جملة فعلية مسبوقة باستفهام تقريريّ في قوله:(أَلَمْ تَرَ أَنَّ)، ثم وضع حرف الجر (إلى) الناس) ليحلَّ محلّ "لَدَى" الظرفيّة الجامدة التي تأتي بمعنى "عند"، وهي لا تَرِد مطلقًا إلا مُضافة إلى الاسم المُفرد؛ كما في قول أبي تمّام "لدى الناس".

وأمّا الصورة الثانية من التصحيف فقد تمثلت في التبديل المكانيّ لترتيب الأبيات في قصيدة أبي تمام؛ فجعل البيت الثاني في مقام الأول، والبيت الثالث في موضع الثاني، وهذا صوابها: [(وَلَمْ تُعْطِنِي الأَيَامُ نَوْمًا مُسكَّنًا* أَلَذُّ بِهِ إِلَّا بِنَومٍ مُشَرَّدِ/ وَطُوْلِ مُقَامِ الْمَرْءِ بِالْحَي مُخْلِقٌ* لِدِيْبَاجَتَيهِ فَاغْتَرِبْ تَتَجَدَّدِ/ فإني رأيتُ الشَّمْسَ زِيْدَتْ مَحَبَّةً* إلى الناس إِنْ لَيْسَتْ عَلَيِهِم بِسَرْمَدِ)].

....

يُتبع،،

المراجع والمصادر:

(1) الراوي: عبدالله بن عباس، المُحَدِّث: البُخاريّ،المصدر: صحيح البخاريّ، رقم: 3628، حديث صحيح، التخريج: من أفراد البخاري على مسلم.

(2) خالد المصلح، العقيدة الواسطيّة، معنى: أمَّا بعدُ، ص: 8

(3) رسالة في (أمَّا بعدُ) في صدر ديباجة الكتب لإبراهيم بن محمد القيصريّ (ت 1253)، دراسة وتحقيق: هبة أحمد طه، مجلة البحوث والدراسات الإسلامية، عدد (57)، ص: 360

(4) التمثيل والمحاضرة لأبي منصور الثعالبيّ، تحقيق: عبد الفتاح محمد الحلو، ج 1، ط1، الدار العربية للكتاب بالقاهرة، 1983، ص: 399

(5) انظر معجم الدوحة التاريخي، مادة: مرء، وانظر: جمهرة خطب العرب(39/1)، كتاب الأمالي: أبو علي القالي(ت356هـ)، تحقيق: محمد عبد الجواد الأصمعيّ، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1975، 2/43

(6) ديوان عمرو بن قميئة، تحقيق وشرح: حسن كامل الصيرفيّ، معهد المخطوطات العربية، القاهرة، مطابع دار الكتاب العربيّ، القاهرة، 1965م، ص: 190

(7) شعراء جاهليون، جمع وتحقيق: أحمد محمد عبيد، المجمع الثقافي، أبوظبي، 2001م، ص: 174

(8) السنن الكبير، أبو بكر البيهقي(ت 458)، تحقيق: مركز هجر للبحوث والدراسات العربية والإسلامية، القاهرة، ط (2011)، 3/557

(9) كتاب الأغاني: أبو الفرج الأصفهانيّ (ت 356هـ)، تحقيق: إحسان عباس وآخرين، دار صادر، بيروت، ط3، 2008م، 9/77

(10) ديوان الإمام الشافعيّ المسمّى: الجوهر النفيس في شعر محمد بن إدريس، إعداد وتعليق وتقديم: محمد إبراهيم سليم، مكتبة ابن سينا للنشر والتوزيع والتصدي، ط 1988، ص: 61

(11) كتاب إعرب القرآن وبيانه، محيي الدين درويش (ت ١٤٠٣ هـ)، سورة الأنفال، الآية 64، ط4، ج4، دار الإرشاد للشئون الجامعية - حمص – سورية، 1415هـ، ص: 39

(12) مسند الإمام الربيع بن حبيب، المجلد: 1، رقم: 291، ص 122، جامع الكتب الإسلامية 103

(13) ملتقى أهل الحديث، منتدى التخريج ودراسة الأسانيد، ج: 50، ص: 7

(14) الفاخر في الأمثال، المفضّل بن سلمة بن عاصم الضبيّ، اعتنى به ووضع حواشيه محمد عثمان، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، ص: 94، 2011م.

(15) ديوان عمرو بن أحمر الباهليّ، دراسة حياته وشعره، تحقيق: محمد محيي الدين، ط1،الناشر: دبي: قنديل،، 2017المجلد: 1، ص:60.

(16) ديوان الأعشى ميمون بن قيس، تحقيق محمود الرضواني، مطابع قطر الوطنية، ط 1، 2010 المجلد: 2، ص: 53

(17) انظر: "فتح المغيث" للإمام السخاويّ (3/72).

(18) بتصرّف من كتاب: كُناشة النوادر، عبد السلام محمد هارون، ص: 176، دار الطلائع للنشر والتوزيع، ط2، 1984م، ص:176 الموسوعة العربية، المجلد 12، ص: 111، وانظر أيضا تجد سيرة (صَرَّ دُرّ) متفرقة في الكامل بابن الأثير، وشذرات الذهب، والبداية والنهاية لابن كثير، ومرآة الزمان، والمنتظم في تاريخ الملوك والأمم، والنجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، وكتاب: وفيات الأعيان لابن خلكان.

(19) ديوان صَرَّ دُرّ، للشاعر الرئيس أبي منصور علي بن الحسين بن علي، ط1، مطبعة دار الكتب المصريّة بالقاهرة، 1934م، ص: 210، وانظر: كتاب أخبار أبي تمام، أبو بكر محمد بن يحيى بن عبد الله الصولي (ت ٣٣٥هـ)، تحقيق: خليل عساكر وآخرون، دار آفاق الجديدة، بيروت، ط3، 1980م.

(20) ديوان أبي تمّام الطائيّ، فسَّر ألفاظه اللغويّة، ووقف على طبعه محيي الدين الخيّاط، ط4، دار المعارف العموميّة، ص ص: 100، 101.

(21) المعاني المدحية عند أبي تمام، لطيفة إبراهيم الرشيدي، المجلة الدولية لنشر البحوث والدراسات، المجلد 3، الإصدار 23، بتاريخ 20 سبتمبر 2021م