رحلة لاستقراء المجهول!

 

د. محمد بن عوض المشيخي **

تُعد الجامعات التي بُنيت على أُسسٍ علميةٍ وليست تجارية وربحية فقط، بمثابة المحرك الأساسي لطموحات المجتمع نحو المجد والتقدُّم والتنمية المُستدامة، في مختلف مجالات الحياة، لِمَا لا وهي الحاضن لأصحاب الفكر والتنوير من طلبة العلم، المنوط بهم قيادة مستقبل الأمة والارتقاء بأفرادها، من خلال ما اكتسبه هؤلاء الروَّاد من ذخيرة معرفية وتجارب وخبرات ومهارات لا غنى عنها لتحقيق مراكز متقدمة في مصاف الدول التي تُعانق إنجازاتها عنان السماء.

وكم كانت سعادتي غامرة في نهاية كل فصل دراسي في قسم الإعلام في جامعة السلطان قابوس والذي اسميه مجازًا بـ"موسم الحصاد"؛ وذلك عند اطلاعي على الحقائق التي كانت غائبة عن المشهد وتتمثل في إبداعات الباحثين من الشباب الطموح، خاصةً الذين اختاروا عناوين مُثيرة للفضول تقدم إجابات منطقية للسؤال البحثي، الذي يُرافق عادة رحلة الباحث طوال الفصل الدراسي؛ وذلك بهدف الوصول إلى الحقيقة التي تعتمد على الهدف الأساسي من إجراء البحث والدافع، الذي يجعل الطالب يصمد أمام التحديات التي تقف في طريقه للحصول على المعلومات الصادقة من مصادرها المختلفة.

وتكمن أهمية البحوث العلمية الرصينة في أنها تشكل واحدة من أهم الوظائف الأساسية لأي جامعة في العالم؛ إذ يتربع البحث العلمي في الترتيب الثاني بعد وظيفة التعليم الذي يتصدر مهام ودور الجامعات في مختلف دول العالم.

ومن البحوث التي لم يسبق لي أن أشرفت عليها أو حتى تناولتها في كتاباتي المختلفة، بحث عن "الخطاب الإعلامي في زمن الحرب في ظفار". وعلى الرغم من عدم قناعتي في بداية هذا الفصل بالإشراف على ذلك المشروع البحثي؛ لكون دراسة تلك المرحلة من المنعطفات التاريخية في هذا البلد العزيز ليست بالأمر السهل؛ إذ يثير ردود أفعال متباينة ووجهات نظر مختلفة في الحقل الأكاديمي، إلّا أنه كان هناك إصرار على المُضي قدمًا في إنجاز البحث، فقد ذكرتني هذه الطالبة الجريئة بالحرية الأكاديمية التي لا مجال فيها لمصادرة الفكر في أروقة جامعة السلطان قابوس، هذا الصرح العلمي الشامخ والذي هو في الأساس يهدف بالدرجة الأولى إلى إعداد جيل من القيادات المستقبلية لهذا البلد العزيز والتي يجب أن يكون سلاحها العلم والمعرفة. وبالفعل لا توجد محظورات في تحقيق الأهداف الأكاديمية التي تزداد كل يوم قوة ورسوخًا نحو اكتشاف المجهول من خلال الدراسات العلمية الرصينة التي تعتبر كنوزا معرفية لمحبي العلم وعاشقي المعرفة.

لا شك أنَّ رحلة الحصول على المعلومات لم تكن سهلة على الإطلاق، فقد تواصلت الباحثة عبر الهاتف مع العديد من الذين عاصروا وعاشوا المرحلة؛ وما زلوا على قيد الحياة ويملكون حقائق ومعلومات عن تلك المرحلة الصعبة التي مرّت بها السلطنة وعلى وجه الخصوص محافظة ظفار ما بين 1965 و1975. 

كما إن البحوث الأكاديمية والكتب العلمية التي تجاوز عددها 7 أعمال، كانت الميدان المعرفي للإجابة على سؤال البحث الرئيس، بداية من كتاب عبدالله النفيسي "تثمين الصراع في ظفار" مرورًا بالبحوث الأكاديمية لمحمد دريبي العمري ومنى جعبوب ونهاية بـ"ظفار ثورة.. الرياح الموسمية" لعبدالرزاق التكريتي.

أما البحث الثاني الذي أيضًا ضمن مُتطلبات مقرر وسائل الاتصال في الخليج العربي، فكان عبارة عن رحلة بحثية أخرى لاكتشاف الأسباب الحقيقية لتراجع- بل واختفاء- الخطاب الإعلامي القومي العربي في المنابر التقليدية، وخاصة بعض الصحف الخليجية، والتي كانت تفتخر عند انطلاقها في بداية السبعنييات من القرن الماضي بأنها تحمل شعلة ما يُعرف بـ"القومية العربية" لتوحيد العرب تحت مظلة واحدة لمواجهة المخاطر التي تُحيط بالأمة من كل صوب، وقد كانت الخلاصات التي تم استنتاجها حول هذا الموضوع؛ هو رحيل الكثير من رواد من يطلقون على أنفسهم القوميين العرب عن المشهد السياسي، بينما غيب الموت البعض الآخر.

علاوة على أن حربي الخليج الثانية والثالثة، وكذلك أحداث الربيع العربي في كل من مصر وسوريا وليبيا، قد ألقت بظلالها على المد القومي وكانت لها نتائج كارثية على الأمة العربية من المحيط إلى الخليج.

الإعلام الرقمي بمختلف منصاته، استحوذ على اهتمام الطلاب الذين عادة ما نُدرِّسهم وسائل الإعلام التقليدية في دول الخليج؛ وذلك حسب توصيف المُقرر، لكن هذه المَرّة اتجهت البوصلة إلى قنوات اليوتيوب والبودكاست والنشر الالكتروني ووسائل التواصل الاجتماعي في دول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام، وقد خصصنا مساحات واسعة من الحوارات الجادة خلال المحاضرات بهدف اكتشاف الميادين الجديدة للإعلام الجديد، وإمكانياته التي أبهرت الجمهور وسيطرت على الساحة الثقافية والفكرية في دولنا الخليجية. وأبحرت مجموعة بحثية طلابية أخرى نحو الرياض؛ حيث برزت للوجود واحدة من أهم منصات الإعلام الرقمي في المنطقة تعرف بـ"ثمانية"، فقد بدأت هذه التجربة الناجحة عبر شبكة الإنترنت انطلاقًا من تساؤل لمؤسس المنصة عبدالرحمن أبو مالح: "لماذا بيننا وبين الصحافة الغربية مسافة سنوات ضوئية؟"، وبالفعل كانت رحلة المتاعب لهؤلاء الشباب عند الانطلاق شاقة؛ إذ واجهت فريق العمل العديد من التحديات، وكانت البداية بسيطة ومتواضعة وكان أصحابها يتوقعون الفشل أكثر من النجاح، ولكن المثابرة والإرادة الصلبة والإيمان بالعمل من أهم مقومات النجاح، لأنهم وصولوا إلى قناعة بأنهم كعرب لا ينقصهم شيء عن الآخرين وإن اتخذوا من لندن وواشنطن مكانًا لهم. فكانت البداية بـ"فنجان" كمنتج إبداعي صوتي "بودكاست"، ثم توسعت الأعمال الإبداعية لهذه المنصة التي أصبحت تنتج الأفلام الوثائقية والمقالات والمحتوى الرقمي بمختلف أشكاله وكذلك زادت قنوات لبودكاست مثل: "سقراط" و"سوالف بزنس"، وغيرها من المنتجات الإعلامية الرقمية مثل إذاعة "ثمانية". ونتيجة هذا النجاح استحوذت المجموعة السعودية للأبحاث والإعلام على 51% من أسهم "ثمانية" التي ابهرت بنجاحها عشرات الملايين من المتابعين والمشاهدين حول العالم.

** أكاديمي وباحث مختص في الرأي العام والاتصال الجماهيري