اللامركزية واقتصاد المحافظات.. بين التقليد والابتكار

 

 

د. يوسف بن حمد البلوشي

yousufh@omaninvestgateway.com

 

تتبنَّى الرؤية الوطنية "عُمان 2040"، والتي انطلق العمل بها في العام 2021، توجُّهاتٍ إستراتيجية رامية لإنجاز تحوُّل نوعي في اقتصاد السلطنة، يضعها في مصاف الدول المتقدمة.

ويتمحور هذا التحوُّل حول منح دور محوري للقطاع الخاص في توليد فرص العمل في القطاعات الإنتاجية، وتعزيز مساهمته كرافد رئيسي للإيرادات الحكومية. غير أنَّ تحقيق هذه الغاية يستوجب التعامل عدة تحديات جوهرية تشمل رأس المال والتمويل، والإدارة، وتهيئة بيئة مُواتية للاستثمار في شتى القطاعات والموارد، فضلًا عن سوق العمل. كما يقتضي إحداث هذه النقلة النوعية المنشودة للبلاد العزيزة إعادة تعريف أدوار الفاعلين الرئيسيين الأربعة: الأسر، والحكومة بمؤسساتها وشركاتها، والقطاع الخاص بمختلف مكوناته، والمجتمع المدني، إلى جانب الشركاء الخارجيين من المستثمرين.

وفي سياق النهوض بالاقتصاد الوطني، تُعدُّ اللامركزية والتنمية الإقليمية للمحافظات أحد المسارات الاستراتيجية المحورية؛ حيث تضع هذه الاستراتيجية الأفراد والشركات في صلب عملية التنمية الشاملة والمستدامة على مستوى كل ولاية ومحافظة. ويجري في هذا الإطار توظيف المقومات المكانية وتفعيل مختلف الجوانب الاقتصادية بناءً على مكوناتها ونسيجها والمزايا النسبية لكل محافظة، بُغية تعزيز النشاط الاقتصادي في محافظات السلطنة الإحدى عشرة، وصولًا إلى تحقيق التنمية الاقتصادية الشاملة والمستدامة على المستوى الوطني.

ورغم النجاحات المحققة والجهود الكبيرة المبذولة من الجميع، إلّا أنَّه لا يزال أمامنا مسار طويل لتفعيل دور اللامركزية والتنمية الإقليمية وجني ثماره؛ فتوزيع الأدوار وإيجاد آلية للانسجام والتنسيق والتوازن -لا سيما فيما يتعلق بأدوار المحافظ والوالي والمجلس البلدي وعضو مجلس الشورى وعضو غرفة التجارة والصناعة ورؤساء مؤسسات المجتمع المدني من جمعيات خيرية وأندية رياضية وثقافية وجمعيات المرأة- يُعدُّ أساسَ التقدم في هذا المسار؛ إذ لن يُحقِّق تجاذب الصلاحيات وتقاذف المسؤوليات النتائج المرجوة، وكما يُقال: "الفريق الذي لا يعمل معًا لا يفوز"، وهناك فجوة واضحة في هذا الشأن.

ومن المعلوم أنَّ نجاح أيِّ برنامج لإصلاح الاقتصاد يعتمدُ على مدى اتفاق أصحاب المصلحة وجميع المؤسسات والأطراف المعنية، بما فيها الحكومة، والقطاع العام، والقطاع الخاص المحلي والأجنبي. ونؤكد على ضرورة تعزيز قدرات المعنيين في مكاتب المحافظين والولاة في مجالات التطوير والتخطيط والتحليل الاقتصادي، وتعزيز مصفوفة المهارات لتمكينهم من اتخاذ القرارات المهمة واللازمة تجاوبًا مع الدور المنوط بهم.

إنَّ التحوُّل المنشود في الإدارة الاقتصادية للاقتصاد العُماني واقتصادات المحافظات مرتبط ارتباطًا وثيقًا بتحول في الأولويات والبعد الإستراتيجي بأنَّ دور الحكومة ينبغي أن يرتكز بدرجة كبيرة على تسهيل بيئة الأعمال، والتشجيع، والتأطير، وحشد الهمم والموارد لتستفيد منها شركات القطاع الخاص المعنية بملفات الإنتاج والتصنيع والتصدير. وهنا، لا بُد من التنويه إلى نقطة في غاية الأهمية، ألا وهي: تغافل الحكومات في فترات ازدهار أسعار النفط "السنين السِّمان" عن دور القطاع الخاص وضرورة تمكينه وتعزيز قدراته، وتمهيد الأرضية له للقيام بأدواره في "السنوات العجاف"، وانحسار القدرات المالية للحكومات جراء انخفاض أسعار النفط.

ولتحقيق هذا التحول، يتعين على الحكومة تبني نهج جديد يُركِّز على خلق بيئة تمكينية للقطاع الخاص، بحيث تكون الحكومة بمثابة المُيسِّر والمُنظِّم للأنشطة الاقتصادية، بينما يتولى القطاع الخاص زمام المبادرة في الاستثمار والإنتاج والتصدير. كما يجب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص، وتبادل الخبرات والمعارف، وتحفيز الابتكار والريادة، لضمان تحقيق النمو الاقتصادي المستدام والتنمية المتوازنة والشاملة في كافة محافظات السلطنة.

وفي مضمار هذا التحوُّل المنشود، لا بُد من مُراعاة النسيج الاجتماعي والاقتصادي العُماني الذي ترتكز عليه خطط السلطنة وبرامجها وتوجهاتها الاستراتيجية. ولا مانع من الاستفادة من التجارب العالمية الرائدة في هذا المجال؛ بما يتناسب مع النسيج والفكر والتجربة التنموية العُمانية الفريدة، من أجل تطوير دور المحافظ والوالي وتمكينهما بالقدرات والصلاحيات اللازمة، لتحقيق قفزات نوعية على صعيد التنمية المحلية، وإيجاد الآليات الملائمة للتخطيط والمساهمة في صنع القرارات المرتبطة بالجوانب الاقتصادية والاستثمارية في محافظاتهم؛ لأنَّ إسقاط التجارب الأجنبية الناجحة في ملف اللامركزية على الواقع العُماني دون مراعاةِ خصوصياته، قد لا يحقق الأهداف المرجوة. لذا؛ يتعيَّن إدخال التعديلات والتكيفات الضرورية على هذه التجارب لضمان انسجامها مع النسيج الاجتماعي والاقتصادي العُماني.

ولا شك أنَّ النجاح في تطبيق نموذج اللامركزية يتطلب فهمًا عميقًا لمختلف الأبعاد. كما يجب إشراك جميع الأطراف المعنية -بما في ذلك السلطات المحلية والمجتمعات المحلية والقطاع الخاص- في عملية التخطيط والتنفيذ لضمان الملكية والقبول والاستدامة على المدى الطويل.

إنَّنا نتطلع للتسريع في ترتيب أوراق المنهج الجديد للتنمية المحلية واللامركزية، والاستفادة من المزايا التي يتيحها من سرعة في اتخاذ القرارات الإدارية والاقتصادية والاستثمارية على المستوى المحلي. ونأمل رؤية خارطة واضحة للميزة الاقتصادية النسبية لكل محافظة من محافظات السلطنة، تمهيدًا لوضع برنامج تنموي متكامل خاص بكل منها، والشروع في تنفيذ هذه البرامج والمبادرات لدعم النشاط الاقتصادي في المحافظات والولايات؛ مثل: الشركات المجتمعية، والعمل التطوعي... وغيرها.

وكأيِّ برنامج تنموي ناجح، يجب البدء بتشخيص دقيق للوضع الراهن في ولاياتنا ومحافظاتنا، وقياس جاهزيتها والمزايا النسبية ونقاط القوة والضعف والتحديات التنموية التي تواجهها. ثم إيجاد آليات للتبنِّي وحشد الموارد والهمم، وتكوين فرق العمل والترتيبات المؤسسية اللازمة، ومن ثمَّ الانتقال إلى مرحلة التنفيذ من خلال مبادرات واضحة المعالم وفق خارطة استثمارية محددة لكل ولاية ومحافظة، بدءًا بتأسيس الشراكات المجتمعية وفق مبادئ واضحة، والتجمعات الصناعية في الولايات. ويلي ذلك إيجاد آليات لتقييم ومراجعة مراحل التنفيذ، وإعادة النظر في بعض المشاريع والمبادرات إذا لزم الأمر؛ بما يضمن تحقيق الأهداف المرجوة من هذا البرنامج التنموي المحلي الطموح على نحو فعال ومستدام.

... إنَّ المستقبل مِلكُ من يصنعه، ونحن قادرون على صناعة المستقبل الذي يضمن الحياة الكريمة ويوفر الوظائف المنتجة لأبنائنا في هذا الوطن العزيز؛ فإعادة هندسة الاقتصاد تستلزم الاستفادة من الأدوات الجديدة وإعادة توظيف الموارد والإمكانيات في كل ولاية بالشكل الأمثل. ونؤكد على ضرورة إيجاد أنماط ونماذج شراكات مجتمعية اقتصادية جديدة بين شركات القطاع الخاص وأجهزة الحكومة ومؤسسات المجتمع المدني، بما يتماشى مع التطورات والتحولات الاقتصادية المعاصرة.

ونقول: لقد آن الأوان لاستثمار طاقاتنا وإمكانياتنا المحلية بأسلوب مُبتكر، وتعزيز التكامل والتنسيق بين مختلف الجهات الفاعلة في المجتمع لتحقيق التنمية الاقتصادية المستدامة، وتمكين القطاع الخاص من المساهمة الفعّالة في إحداث التحول الاقتصادي المنشود، عبر شراكات حقيقية مع الحكومة والمجتمع المدني. وهذا يتطلَّب تحولًا جوهريًّا في النماذج التقليدية وتبني أساليب إبداعية وفعالة، تستجيب لاحتياجات كل المحافظات والولايات، وتستثمر المزايا النسبية والقدرات المتاحة فيها. عندها، سنكون قادرين على ترجمة التطلعات إلى واقع ملموس، وصناعة مستقبل زاهر لأجيالنا القادمة في ربوع هذا الوطن الغالي.