حرب الاستنزاف الكبرى

 

حاتم الطائي

المقاومة الباسلة قادرة على مواصلة حرب استنزاف تُلحق الهزيمة المُذلة بإسرائيل

خسائر الاحتلال أفدح من أعداد القتلى المرتفعة في هذه المعركة المصيرية

إسرائيل تتصدع داخليًا ولن تفلح أبدًا في تحقيق أي نصرٍ

لا يُمكن تصوُّر ملحمة "طوفان الأقصى" على أنها واحدة من المعارك التي تندلع بين الفينة والأخرى في إطار التضحيات الهائلة التي يُقدِّمها الشعب الفلسطيني الصامد، من أجل استرداد أرضه وانتزاع حريته ونيل استقلاله التام؛ بل إنها المعركة الفاصلة والحرب التي سيتحدد فعليًا من خلالها كينونة الدولة الفلسطينية ومستقبلها، لذلك لا يمكن تخيُّل أي بديل عن مواصلة هذا الاستبسال التاريخي وغير المسبوق لتحقيق المطالب المشروعة، وقد زفَّت لنا المقاومة الشجاعة الصامدة تأكيداتها أنها مُستعدة لخوض حرب استنزاف طويلة مع العدو الصهيوني، وهذا تطوُّر بالغ الأهمية.

وأهمية هذا التطوُّر أنه يأتي بعدما ظن البعض أن جيش الاحتلال ربما يتغلّب على المقاومة نظرًا لفارق العدة والعتداد؛ فالكيان المُحتل لا يُحارب مُنفردًا كما هو الحال بالنسبة للمقاومة؛ إذ تدعم الدول العظمى بكل وقاحة حرب الإبادة التي ينفذها الاحتلال المُجرم، وتتوالى صفقات التسليح الأمريكية والبريطانية والألمانية على هذا الكيان الدموي الغاصب رغم النداءات الدولية ومظاهرات الغضب التي تفجّرت في أنحاء العالم، تطالب بوقف تسليح دولة الاحتلال. في حين أن المقاومة تقف شامخة منفردة، ولن نُبالغ إذا قلنا إنَّ المقاومة تُحارب العالم الغربي أجمع بصدور عارية وبأقل الإمكانيات، لكنها تملك أقوى سلاح في العالم.. إنه سلاح الحق والإرادة.

المقاومة في هذه المعركة التاريخية الفاصِلة، تخوض حربًا على عدة أوجه؛ فهي حرب ميدانية عسكرية نجحت من خلالها في تلقين العدو الإسرائيلي دروسًا قاسية، وكبّدته خسائر هائلة لم يتكبدها في تاريخ الصراع العربي الإسرائيلي؛ حيث سقط ما لا يقل عن 650 قتيلًا من قوات الاحتلال، حسب الأرقام الرسمية، فيما من المؤكد أن الأرقام الحقيقية ربما تكون ضعف أو ضعفي هذا الرقم، أي أننا نتحدث في المتوسط عن 1200 قتيل عسكري، فضلًا عن 1200 آخرين اعترفت بهم إسرائيل قُتلوا داخل دولة الاحتلال في السابع من أكتوبر. أضف إلى ذلك أكثر من 3200 جريح ومصاب عدد كبير منهم في حالة حرجة، وعدد آخر مبتور الأطراف أو يُعاني من عاهات مستديمة، فضلًا عن أعداد كبيرة أخرى ممن يعانون أمراضًا نفسية نتيجة لهول المعارك التي يخوضونها مع المقاومة في قطاع غزة، وأولئك الذين انتحروا وتخلصوا من آلامهم النفسية، حسبما تذكر تقارير إعلامية إسرائيلية.

خسائر الاحتلال في هذه المعركة المصيرية، تتجاوز أعداد القتلى والمصابين في صفوف الجيش، لتصل إلى الاقتصاد؛ حيث يُعاني اقتصاد إسرائيل من وضع غير مسبوق، ويكفي أن نقرأ البيانات المجرّدة دون تحليل لنعلم حجم التأثير المُزلزل لـ"طوفان الأقصى" على اقتصاد إسرائيل. فقد انكمش الاقتصاد بنحو 21%، وتراجعت الصادرات بـ22.5%، وقفز التضخم إلى 2.7%، وتضاعف الدين العام ليصل إلى 43 مليار دولار، منها 21.6 مليار دولار فقط منذ اندلاع الحرب في 7 أكتوبر 2023، بينما اقترضت إسرائيل في عام 2022 بأكمله أقل من 17 مليار دولار، وهذا يؤكد فداحة الخسائر. وعلى الرغم من الدعم الأمريكي المستمر بعشرات المليارات من الدولارات علاوة على التسليح، فقد زاد الإنفاق العسكري في إسرائيل ليمثل 67% من الناتج المحلي، وهي نسبة مرتفعة جدًا.

لكن أكبر خسارة تكبدتها إسرائيل، تتمثل في تزايد الهجرة العكسيّة إلى خارج إسرائيل، وعودة مئات الآلاف من اليهود إلى بلادنهم التي وَفِدُوا منها؛ لأن غالبية الإسرائيليين، مواطنون يهود في دول أخرى حول العالم، وخاصة من أمريكا وأوروبا وعدد قليل في آسيا، وليسوا إسرائيليين بالولادة، فقد توافدوا على دولة الاحتلال التي تغريهم بالرواتب المرتفعة ومنح الأراضي دون مقابل، ومنحهم قروضًا بأسعار رخيصة للغاية، سعيًا لتوطينهم وزيادة أعداد اليهود.

ومن بين الخسائر الهائلة كذلك، فقدان إسرائيل لصورتها الدولية المزعومة، والتي كانت تدّعي فيها أنها الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، وقد باتت إسرائيل اليوم معزولة تمامًا في أنحاء العالم، وبدأ يتكشّف للعالم أجمع حقيقة هذا الكيان الدموي الذي يُمارس أبشع جريمة إبادة في القرن الحادي والعشرين، أسفرت حتى الآن عن استشهاد ما يزيد عن 36 ألف شهيد، وقرابة 75 ألف مصاب، فضلًا عن آلاف المفقودين؛ سواء تحت الأنقاض أو في غياهب سجون الاحتلال.

ولأول مرة في تاريخ هذا الكيان الغاصب، تقف إسرائيل مُدانة بجريمة الإبادة الجماعية أمام محكمة العدل الدولية، فيما تنظر المحكمة الجنائية الدولية في إصدار مذكرات اعتقال بحق قادة الاحتلال؛ سواءً في الحكومة أو الجيش، وتوجيه تهم ارتكاب جرائم حرب بحق الشعب الفلسطيني. وهذا يؤكد لنا حجم التدهور والخسائر التي يتكبدها الاحتلال عالميًا، علاوة على إيقاظ الضمير الشعبي العالمي، في ظل التظاهرات المليونية التي تجوب العواصم المختلفة، ومظاهرات الطلبة التي هزّت المجتمع الأكاديمي الدولي، وكشفت عورة الجامعات الكبرى في تواطؤها مع كيان الاحتلال، في صورة استثمارات ودعم وتعاون بحثي.

الحقيقة الماثلة الآن، أن إسرائيل تنهار من الداخل، مع تصاعد ضربات المقاومة وفشل حكومة التطرف والإرهاب في تل أبيب، في تحقيق ولو جزء من النصر المزعوم الذي يسعى وراءه بنيامين نتنياهو، خاصةً وأنَّ التحالف الهشَّ الذي يقوده هذا المجرم السفّاح، يتداعى في ظل الانقسامات الحادة حول جدوى الحرب وافتقار الحكومة لهدف سياسي من وراء العدوان العسكري على قطاع غزة، وانهيار مفاوضات صفقة الأسرى ووقف إطلاق النار.

إن ما فاجأ حكومة الاحتلال الفاشية، ما أظهرته المقاومة الفلسطينية من استبسال وصمود؛ بل وتنفيذ عمليات نوعية ضد جنود الاحتلال، وتدمير عدد هائل من الآليات العسكرية وقتل واستهداف عدد كبير من القوات، حتى في مواقع تمركزهم، وفي المناطق التي مَحتها إسرائيل عن بكرة أبيها، ودمّرتها تدميرًا. وهذه هي الترجمة الصادقة لحرب الاستنزاف الكبرى التي تخوضها المقاومة، والتي أعلنت استعدادها لها، دون كلل أو تراجع. والتاريخ يُبرهن لنا أن حروب الاستنزاف تُكبِّد الجيوش النظامية أشنع الخسائر، وتجعل هذه الجيوش المُعتدية تتراجع عن قرار مواصلة الحرب، وترفع راية الاستسلام وتُعلن هزيمتها المدويّة، مُتقهقرةً إلى الوراء، وهذا ما يُوشك أن يحدث في هذ المعركة المصيرية الفاصلة.

ويبقى القول.. إنَّ ثمّة حقيقة واحدة لا تقبل الشك، وهي أن إسرائيل دولة احتلال، ولا حق لها في أي شبرٍ من أرض فلسطين التاريخية، ومهما تكالبت الدول والحكومات الإجرامية على هذا الشعب المناضل البطل، فلن يتراجع قيد أنملة عن حقه في النضال لنيل الاستقلال واستعادة الأرض المُحتلة. ولليائسين والمحبَطِين من هذا الظلم والفُجر، أقول: لا تيأسوا، فإنَّما النصر صبر ساعة، وهؤلاء الأشاوس أبطال المقاومة يُضحّون بأرواحهم لإلحاق الهزيمة الكاملة بالعدو الجبّان، يؤازرهم في ذلك الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني العظيم.