مسعود أحمد بيت سعيد
يُعوِّل الكثيرون على المظاهرات الطلابية الأمريكية التي تنامت على خلفية حرب الإبادة الجماعية التي يرتكبها الكيان الصهيوني المجرم، وعلى أرضية الصمود الأسطوري للشعب الفلسطيني الأبيّ، ولا شك أنَّ الانتفاضة المتصاعدة في معقل الإمبريالية- مهما كانت أسبابها ومحفزاتها ومسوغاتها- تستحق التوقف عندها، لجهة تأمل مدلولاتها واستشراف آفاقها ومُتابعة إفرازاتها وأبعادها، وذلك بعيدًا عن السردية النمطية التي تعتبرها امتدادًا لتقليد تاريخي قديم وبعيدًا كذلك عن الاستحضار المثالي لدورها إبان الحرب الفيتنامية التي يعزو إليها البعض التأثير الفعلي في مجريات أحداثها ونتائجها.
وإذا كان من غير الإنصاف التقليل من فعاليتها وأثرها ودورها في الضغط على الإدارة الأمريكية حينها، إلّا أنه من الإجحاف كذلك نسف تضحيات الشعب الفيتنامي التي فرضت إعادة التقييم والانسحاب من جحيم المقاومة الوطنية الفيتنامية. غير أن ما يجري حاليًا ربما يكون مختلفًا من عدة نواحي؛ أهمها: دور الثورة التكنولوجية ونوعية القضية التي أيقظت الجسم الطلابي والأكاديمي بهذا العنفوان والعمق؛ حيث انخراط طيف واسع من المجموعات والمكونات الشبابية والحقوقية والمدنية من مواقعها المتباينة في السلم الاجتماعي وبتنوع خلفياتها ومشاربها غير المتجانسة فكريًا وسياسيًا؛ مما يعطيها طابعًا اجتماعيًا أشمل، إلّا أنه وفي نفس الوقت يُشكِّل معضلة جدية أمام فرصة تطويرها، وربما سيحول- إن اتسعت- دون إمكانية إعادة صياغة الخطاب الآيديولوجي الأمريكي تجاه الكيان الصهيوني.
وطالما لم تلتحم هذه المظاهرات بحركة جماهيرية واسعة وتحت قيادة برنامج سياسي يُلامس بنية النظام الرأسمالي، ستبقى ضمن دوافعها الإنسانية النبيلة، دون أن تتمكن من إحداث تقدمٍ ملموسٍ في واقع مطالبها المُعلنة؛ حيث لم يتضح إلى الآن مدى صلتها بالقضايا الاجتماعية والاقتصادية الضاغطة؛ الأمر الذي يُبقي تفاعلاتها أسيرة عوامل خارجية، غير أنها في ظل الاستحقاق الانتخابي المُقبل ستُشكِّل بالتأكيد عنصر ضغط سياسي وإعلامي ومعنوي كبير على جميع الأطراف الداخلية والخارجية. ويبقى الأكثر أهمية يتمثل في فضح الادعاءات الديمقراطية ومعاييرها المزدوجة التي فشلت في توفير حدٍ أدنى من الضمانات لهذا الجيل المُشبَع بالقيم والثقافة الديمقراطية الليبرالية ومُثُلها العليا التي ضاقت بلافتةٍ أمام تمثال الحرية أو في حرم الجامعات العريقة، التي حملت مشاعل التنوير وأفسحت للعقل والإبداع مساحات واسعة على مدى قرون طويلة؛ لدرجة تكبيل حملة الفكر والقلم والكلمة بالأصفاد، واقتيادهم كمجرمين إلى سجون الديمقراطية الأمريكية التي تُصدِّرها للعالم بقوة السلاح؛ وهو ما يكشف زيف تلك الشعارات ومحدوديتها.
لكنَّ فحص مثل هذه الظواهر وفق المنهج الليبرالي، أمر مألوف وطبيعي. وبما أن الحديث واسع حول دور الحركة الطلابية في عملية التغيير السياسي والتأسيس لمسار عالمي جديد، فمن الضروري رؤيتها وفق سياقها العام كجزء من ظاهرة عالمية قيد التبلور ومرشحة للازدياد في معظم البلدان الرأسمالية التي بلغت أزماتها الاقتصادية مستويات مُتقدمة جدًا في عمقها وحِدَتِها واستعصاءاتها؛ وهي قابلة للاتساع يومًا بعد آخر، بفعل التناقض الموضوعي بين العمل ورأس المال الذي يُفرز- وفق شروط الإنتاج الرأسمالي- تراكمَ الثروة في صف الأقلية، بينما الفقر في صفوف الأغلبية، وإن أخذ أشكال وتجليات مختلفة، بعيدة عن هذا المجرى التاريخي، وتحديدًا في الجمهوريات البرجوازية التي تُعدُّ بؤرَ الثورات الاجتماعية القادمة، وإن أطنب مُنظِّري الرأسمالية على اعتبارها النموذج السياسي والاقتصادي الأكمل والنهائي للتطور البشري، وحيث التسليم بديمومة الاستعمار والاستغلال والاضطهاد إلى الأبد وأنها مسألة لم يحسمها التاريخ بشكل قطعي، كما تنفيها قوانين التطور البشري، فمن الذي بمقدوره في عالمٍ يموج بكل هذه التناقضات التسليم باستمرارية الظلم والطغيان، مهما امتلك من أدوات ووسائل؟!
ورغم زخم الانتفاضة وعنفها وحضورها اللافت، فإنَّ من المبكر التنبؤ بما ستؤول إليه تطوراتها اللاحقة، وما لم تبادر شعوب وحكومات العالم المناهضة للهيمنة الإمبريالية الأمريكية إلى حماية حقوق الإنسان وحرية الرأي والتعبير في الولايات المتحدة الأمريكية من بطش المافيات الإرهابية، سيتم إجهاضها واحتواؤها بأقل التكاليف!
لعلها فرصة نادرة أمام كافة القوى الدولية لدعوة مجلس الأمن الدولي لوقف الانتهاكات الأمريكية والإطلالة على أوضاعها الداخلية ووضعها في قفص الاتهام، كما اعتادت واشنطن فعله مع الآخرين، ثم محاربتها بأسلحتها التقليدية والمطالبة بحماية الشعب الأمريكي من سوط الحرس الوطني، بالتوازي مع تصعيد النشاط الطلابي والجماهيري العالمي للتضامن مع أنصار الحرية والديمقراطية، الذين يتعرضون للقمع والإرهاب على أيدي العصابات اليمينية المتطرفة في الإمبراطورية الأمريكية.