طريق عُمان لتعزيز الإنتاجية
د. يوسف بن حمد البلوشي
كنَّا قد تناولنا في مقالنا السابق تشخيص الوضع الراهن للإنتاجية في الدول العربية والخليجية؛ بما في ذلك سلطنة عُمان؛ إذ يتضح أنَّ مؤشر الإنتاجية سجل تراجعًا ملحوظًا خلال العقد الماضي. وفي سياق التعامل مع معضلة تدني المستويات العامة للإنتاجية، نُقدِّم اليوم بعض الحلول القائمة على توظيف التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي، استنادًا إلى التقرير المُتميز لمنتدى الاستراتيجيات الأردني ودراسة صندوق النقد الدولي حول مستقبل الوظائف وتقرير جاهزية الحكومات للذكاء الاصطناعي.
ففي خضم التطورات المتسارعة التي يشهدها العالم، تبرز أهمية التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي كأدوات إستراتيجية لتعزيز الإنتاجية في مختلف القطاعات الاقتصادية والمجالات. وقد تطور الذكاء الاصطناعي بسرعة هائلة في الآونة الأخيرة، وأصبح يمتلك إمكانات هائلة قادرة على إحداث ثورة في جميع الأنشطة الاقتصادية تقريبًا. فهو يستخدم الآن، على نطاق واسع، في الرعاية الصحية، والتمويل، والتعليم، والتصنيع، والنقل واللوجستيات، وجذب الاستثمارات، وغيرها من القطاعات. لذلك، يُساعد الذكاء الاصطناعي على تحسين أداء الأعمال، ورفع إنتاجياتها من خلال أتمتة العمليات أو المهام التي كانت تتم يدويًا. ومن الأمثلة على الذكاء الاصطناعي، الروبوتات التي تقدم المساعدة، والسيارات ذاتية القيادة، والتصحيح التلقائي، وبرامج تحرير النصوص، وتحليل وفحص البيانات، والروبوتات الجراحية وغيرها.
وتسعى سلطنة عُمان، من خلال خططها ورؤيتها المستقبلية، إلى تعظيم الاستفادة من هذه التقنيات الحديثة لخلق فرص عمل نوعية وتعزيز كفاءة العمل وتحقيق التنمية المستدامة؛ حيث أطلقت أجهزة حكومية مؤخرًا العديد من المبادرات، وعلى رأسها وزارة الاقتصاد التي دشنت "المبادرة الوطنية لتمكين الاقتصاد الوطني المعزز بالذكاء الاصطناعي" لإدماج تطبيقات وتقنيات الذكاء الاصطناعي في المشروعات والبرامج الإنمائية في قطاعات التنويع المحددة بخطة التنمية الخمسية العاشرة (2021- 2025). وتهدف هذه المبادرة إلى تسريع وتيرة تحقيق مستهدفات قطاعات التنويع الاقتصادي بخطة التنمية الخمسية العاشرة، وتمكين الجهات والمؤسسات الحكومية من استخدام تطبيقات وتقنيات الذكاء الاصطناعي في المشروعات الإنمائية، إلى جانب دعم الفرص الاستثمارية القائمة على التقانة والابتكار، كما ستُسهم المبادرة في تعزيز كفاءة الإنفاق الإنمائي من خلال زيادة الإنتاجية وتقليل التكاليف، إضافة إلى تطوير الخدمات الحكومية الذكية وضمان جودتها.
أيضًا أطلقت وزارة النقل والاتصالات وتقنية المعلومات برنامج "مستقبل الذكاء الاصطناعي وتأثيره على مجتمعنا" وبرنامج "دعم التميز في مجال الذكاء الاصطناعي (صُناع الذكاء الاصطناعي)".
وفي هذا السياق، لا يكتمل الحديث عن تعزيز الإنتاجية دون التطرق إلى مفهومين مُهمين: التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، واللذان يتكاملان بشكل كبير، فيشير مفهوم التحول الرقمي إلى توظيف التكنولوجيا لتطوير طريقة عمل المؤسسات وتحسينها، من خلال تنفيذ تقنيات وعمليات ونماذج أعمال جديدة لزيادة الكفاءة ورفع الإنتاجية وتحسين مستوى رضا العملاء.
أما مفهوم الذكاء الاصطناعي؛ فهو مجال فرعي من التحول الرقمي يتضمن استخدام الآلات الذكية التي يمكنها التعلم والتفكير وأداء المهام التي تتطلب بالعادة ذكاءً بشريًا. وتشمل تقنيات الذكاء الاصطناعي التعلم الآلي، ومعالجة اللغات الطبيعية، والروبوتات. وبناءً على هذين التعريفين، يُعد الذكاء الاصطناعي مُكوِّنًا مُهمًا للتحول الرقمي؛ إذ يستطيع أتمتة المهام المتكررة وتحليل كميات هائلة من البيانات وتقديم خلاصات وأفكار جيدة، يمكن أن تؤدي إلى قرارات مُستنيرة تُساعد في عملية التحول الرقمي على مستوى الفرد والمؤسسة والدولة.
وتشير ورقة صندوق النقد الدولي الصادرة خلال العام الجاري إلى عدد من النتائج المثيرة للاهتمام، من بينها: أن الذكاء الاصطناعي سيؤثر في نحو 40% من الوظائف حول العالم؛ حيث سيحل محل بعض الوظائف؛ مما يتطلب الموازنة بين سياسات التوظيف وسياسات تبني التكنولوجيا لتحقيق المنفعة العامة. كذلك تبلغ نسبة الوظائف التي قد تتأثر بالذكاء الاصطناعي في الاقتصادات المتقدمة حوالي 60%. وسيتأثر النصف منها نتيجة إدماج الذكاء الاصطناعي في العمل؛ مما يُعزز من إنتاجية العاملين فيها، ويرفع من كفاءة عملهم. أما النصف الآخر من الوظائف، فقد تتولى التطبيقات الذكية تنفيذ المهام الرئيسية التي يقوم بها؛ مما قد يؤدي إلى تقليل الطلب على الأيدي العاملة وتخفيض أجورهم والحد من فرص العمل المستقبلية في هذه الوظائف.
أما في الأسواق الصاعدة من المتوقع أن تتأثر الوظائف بحوالي 40% نتيجة تبني الذكاء الاصطناعي، بينما ستتأثر وظائف البلدان ذات الدخل المنخفض بحوالي 26% فقط. وتشير النتائج إلى أن الأثر المباشر على العديد من هذه الاقتصادات سيكون أقل، نتيجة ضعف قدرتها على تبني تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي؛ فهي لا تمتلك البنية التحتية الكافية والقوى العاملة الماهرة التي تتطلبها تلك التكنولوجيا. وفي المقابل، فإنَّ ضعف تبني تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي قد يُفاقم من مخاطر عدم المساواة بين الدول.
ويتحتم على الدول في هذا المجال، أن تقوم بتأسيس شبكات أمان اجتماعي شاملة، تُقدِّم برامج إعادة تأهيل وتدريب العاملين المُعرّضين إلى خطر الإحلال نتيجة ضعف قدراتهم على مواكبة الذكاء الاصطناعي. كما لا بُد من أن تكون قاعدة التحول نحو الذكاء الاصطناعي أكثر شمولًا للجميع من أجل حماية مصادر الدخل والحد من عدم المساواة. وينبغي لاقتصادات الأسواق الصاعدة والمتقدمة أن تستثمر في الابتكار والتكامل مع الذكاء الاصطناعي. أما الأسواق الناشئة والاقتصادات النامية الأقل استعدادًا، فإن تطوير البنية التحتية الأساسية لبناء قوى عاملة ماهرة رقميًا يمثل الأولوية الأكثر إلحاحًا.
وتُشير نتائج مؤشر جاهزية الحكومات للذكاء الاصطناعي 2023، الصادر عن "أكسفورد إنسايتس" إلى أنه على المستوى الدولي تتصدر الولايات المتحدة الأمريكية قائمة الدول المشاركة في تقرير عام 2023 بعد أن حققت ما مجموعه 84.8 نقطة من أصل 100. تلتها كل من سنغافورة والمملكة المتحدة، وفنلندا، وكندا، على التوالي، علما بأن المتوسط العام للبلدان المشاركة كان 45.35 نقطة. أما على المستوى الإقليمي، فقد جاءت دول مجلس التعاون الخليجي في المراتب الأربعة الأولى ضمن قائمة الدول العربية المشاركة في التقرير؛ حيث جاءت الإمارات في المرتبة الأولى عربيًا، محتلة بذلك المرتبة 18 ضمن الترتيب العام للمؤشر. تلتها كل من السعودية وقطر وسلطنة عُمان على الترتيب؛ حيث جاءت سلطنة عُمان في المرتبة 55 من أصل 193 دولة.
وهناك العديد من التوصيات والتي يُمكن الاستفادة منها في هذا الموضوع، نذكر منها: البدء في إدماج أدوات الذكاء الاصطناعي في المراحل التعليمية الأساسية والثانوية والجامعية؛ بهدف إيجاد مُخرجات تتمتع بمهارات جيدة الذكاء الاصطناعي. وهناك ضرورة مُلِحَّة لزيادة وتشجيع الاستثمار في مجال البنية التحتية للقطاع التكنولوجي وتقنيات الذكاء الاصطناعي الناشئة والسعي لاستقطاب كبرى الشركات العالمية العاملة في هذا المجال. ولضمان النجاح في هذا المسار لا بُد من زيادة حجم الانفاق على البحث والتطوير في الموازنة العامة للدولة خلال السنوات المقبلة؛ لتعزيز جهودها في تسريع التحول الرقمي. وكذلك ضمان وصول خدمات الانترنت السريع الى مختلف المناطق بتكلفة مالية مناسبة.
وتتسابق الدول والأجهزة والكيانات العامة والخاصة في مجال توطين الذكاء الاصطناعي وادواته وتطبيقاته المختلفة، ومن الأهمية بمكان التنويه بأهمية الدخول في هذا السابق ليس لمجرد الدخول وانما لتعظيم الاستفادة من هذا التحول "البراديمي" (التحوُّل في النموذج) بشكل إيجابي لتعزيز مستويات الإنتاجية في كافة القطاعات الاقتصادية، وبما ينعكس على تحسين الأداء، ويؤدي الى تحقيق نقلات نوعية على مختلف الأصعدة. وهناك أهمية لتوظيف العديد من أدوات من الذكاء الاصطناعي، في عمليات البحث والتطوير والابتكار وغيرها لدعم العمليات المختلفة، وتوفير الوقت والجهد مما يعزز من مستويات الكفاءة والإنتاجية. ومما لا شك فيه أن تبنِّي مفهوم الذكاء الاصطناعي لتطوير بيئة الأعمال، سيُسرِّع من تنفيذ مبادرات الخدمات المستقبلية ضمن رؤية "عُمان 2040"، وكذلك تنفيذ مبادرات مكون الخدمات الحكومية والرقمنة ضمن خارطة طريق تحديث القطاع العام.
ونختم بالقول.. إنَّ تعزيز القدرات الوطنية في مجال التكنولوجيا والذكاء الاصطناعي على مستوى الحكومة والشركات والأفراد أمرٌ لا مناص منه لمواكبة التطور العالمي؛ ففي ظل مسارعة الدول خليجيًا وإقليميًا وعالميًا لبناء قدراتها الاستيعابية لهذه التكنولوجيا المُهمة، لا يُمكننا التخلُّف عن الركب. لذلك.. يجب علينا بذل كل الجهود وتسخير الإمكانيات لتعزيز قدراتنا في هذا المجال، لكي نضمن مستقبلًا مُزدهرًا لأجيالنا القادمة في كافة المجالات؛ بدءًا من الاقتصاد والتعليم، وصولًا إلى الرعاية الصحية والاجتماعية والاستدامة البيئة.