حاتم الطائي
◄ الاحتلال الصهيوني المُجرم فشل في فرض إرادته وافتضح أمره حول العالم
◄ إسرائيل كيان استعماري استيطاني يُمارس الإبادة الجماعية والفصل العنصري
◄ المشروع الصهيوني يُواجه الانهيار التام بفضل بسالة المقاومة الفلسطينية
لم تعرف البشرية احتلالًا استمر للأبد، ولا استعمارًا نجح في فرض هيمنته وتغيير التركيبة السكانية بالكامل، ولا عدوانًا عسكريًا استطاع أن يضمن الأمن والاستقرار للمُعتدي، فهذه سُنة الكون ونواميسه التي لا تتبدل ولا تتغير، وما يحدث في أرض فلسطين منذ نحو 76 عامًا، من تهجير قسري وإبادة جماعية، ومحوٍ للهوية الفلسطينية، واغتصاب للأرض، وانتهاك للقوانين والحقوق المُعترف بها دوليًا، ليس سوى مُحاولة يائسة من احتلال صهيوني مُجرم يسعى لفرض إرادته، لكن في كل مرة يفشل، ويُكرر الفشل، حتى لو بدا للكثيرين أنَّه نجح في تأسيس "دولة"، لأنَّ هذه "الدولة"/ الكيان، آخذة في الزوال؛ سواء كان ذلك بأيدي المُقاومة الباسلة وعبر النضال الحُر الشريف، أو نتيجة لعوامل أخرى داخلية تُعجِّل بالزوال والاندثار.
وعلى مدى ما يزيد عن 177 يومًا، منذ انطلاق "طوفان الأقصى"، ونحن نرى بيت العنكبوت الإسرائيلي يتداعى وينهار تدريجيًا، وباعتراف قادة إسرائيل، تزامنًا مع عودة الحديث عن "لعنة العقد الثامن"، وهي فرضية سياسية تُشير إلى عدم استمرار أي دولة لليهود على مرِّ تاريخهم لأكثر من 80 سنة. لكن هذه الفرضية لا يجب الركون إليها كثيرًا، لسبب واحد وهي أنَّ أي دولة يهودية تختلف اختلافًا كُليًا وجذريًا عن الدولة الصهيونية، بدليل وجود حركات يهودية مؤيدة للسلام ورافضة للاستيطان، حتى إن هناك أصواتًا في الداخل الإسرائيلي تنتقد بشدة السياسات الصهيونية وترفضها، وتطالب بـ"دولة تتسع للجميع" من يهود وعرب وغيرهم.
الذي يعنينا في هذا السياق، التأكيد على حتمية زوال الكيان الصهيوني، لأنَّه كيان استعماري استيطاني يُمارس الإبادة الجماعية والفصل العنصري والقتل على الهوية، وغيرها من الجرائم التي يُعاقب عليها القانون الدولي، إذا كانت هناك إرادة حقيقية لتطبيقه على إسرائيل. وحتمية الزوال التي نؤمن بها- ويؤمن بها كل قارئ للتاريخ- تنبعث من قناعتنا بأنَّ المشروع الصهيوني وُلِد ميتًا، حتى وإن استمر لنحو 76 عامًا إلى الآن، فلا يُعقل أن كيانًا منذ نشأته وهو في حالة حرب مع محيطه القريب والبعيد، أو أن دولة تُدرج كل مواطنيها من رجال ونساء على قوائم جيشها؛ فالتجنيد الإجباري في إسرائيل لا يستثني أحدًا، حتى فئة اليهود الأصوليين "الحريديم" التي كانت مُستثناة من التجنيد، باتت في مهب الريح بعد قرار قضائي أخير يحرمهم من الدعم الحكومي بسبب رفضهم الالتحاق بالتجنيد الإجباري.
المشروع الصهيوني العنصري الذي يُنفِّذ أبشع إبادة جماعية في التاريخ، تعرّى تمامًا أمام العالم، فلم يعد التعاطف مع إسرائيل قائمًا بنفس الدرجة التي كان عليها قبل 7 أكتوبر، وبات الوعي العالمي تجاه القضية الفلسطينة في أعلى مستوياته، فيكفي أن نرى مظاهرات مليونية تخرج في عواصم أوروبية ومدن أمريكية مؤيدة لفلسطين، ويكفي أن تقف الولايات المتحدة الأمريكية منبوذة في مجلس الأمن أثناء التصويت على قرار وقف إطلاق النار في غزة، وهي التي ظلت تستخدم الفيتو ضد أي قرار سابق. أصبحت إسرائيل كذلك معزولة تمامًا عن المجتمع الدولي، لا سيما بعد اتهامها بالإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية، وما شهدناه من مرافعة تاريخية لدولة جنوب أفريقيا، وما تلا ذلك من مرافعات لأكثر من 50 دولة ضد الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين.
وعندما ننظر إلى عوامل زوال إسرائيل يجب أن نضع في عين الاعتبار عاملين أساسيين؛ الأول تفكك المجتمع من الداخل، والثاني: انعدام الأفق السياسي.
أولًا: تفكُّك المجتمع الإسرائيلي؛ إذ إنَّ مجتمع إسرائيل في داخله ليس سوى مجموعة من المستوطنات المُغتصِبة للأرض الفلسطينية، يحكمها زمرة من الفاسدين، يمارسون الاستبداد، لا يولون أي اعتبار لمواطني هذه الدولة المزعومة، ولا يعيرون المجتمع الدولي أي أهمية، فهو كيان استيطاني يفتقد لقيم العدالة حتى في داخله.. وقد بدأ بالفعل العد التنازلي لانهيار وتفكك المجتمع الصهيوني. وواحدة من عوامل تفكك المجتمع الصهيوني، هم يهود "الدياسبورا" أو يهود الشتات، الذين اعتمدت عليهم الدولة الإسرائيلية منذ التأسيس لزيادة عدد السكان، من خلال دعوتهم للانتقال إلى إسرائيل والعيش فيها باعتبار أنها "الملاذ الآمن والمُستقر" لهم. لكن ذلك تبدّل تمامًا وشاهدنا الهجرة العكسية منذ "طوفان الأقصى"، والأعداد الهائلة التي تفِرُّ عبر مطار بن جوريون إلى الخارج.
أيضًا العنصرية والتناحر المجتمعي المكتوم في أحيان والمُعلن في أحيان أخرى بين فئات اليهود- الدينية مثل الأرثوذكس والمحافظين والإصلاحيين والمجددين، أو حتى الفئات الإثنية مثل السفرديم والأشكناز ويهود الفلاشا- يؤكد أن هذا المجتمع في داخله غير قادر على إقامة دولة وضمان استمراريتها، فلنا أن نتخيل أنَّه في حالة انهيار الجيش الإسرائيلي بالكامل واختفاء نتنياهو؛ سواء باغتياله أو سجنه، هل ستسمر الدولة الصهيونية؟ الإجابة: لا! لماذا؟ لأنَّ إسرائيل كيان بلا مجتمع، بلا جذور، بلا هوية حقيقية. لكن في المقابل لنُلقي نظرة على دول أخرى حتى في منطقتنا؛ إذ لن نذهب بعيدًا، وما تعرضت له دول كبرى في المنطقة من احتلال أو من انهيار في خضم "الربيع العربي"، أو ما يُسميه البعض "العشرية السوداء"، فقد سقطت الأنظمة وقُتل أو اعتُقل أو حتى أُعدِم رأس النظام، وانهارت المؤسسات الحرجة مثل القوات المسلحة والأجهزة الأمنية ومؤسسات الدولة الأخرى، لكن الشعوب ظلت باقية، لم تندثر، ولم تتآكل، ولم تتفكك، صحيحٌ أنها عاشت مِحنًا ونكبات غير مسبوقة، وانزلقت إلى مُستنقعات من الأزمات الكارثية، لكنها صمدت صمودًا لا يمكن أن يحدث في حالة الكيان الإسرائيلي؛ لأنَّ هذه الدولة القائمة على اغتصاب الحقوق وفرض الإرادة بالقوة العسكرية المُميتة والإجراءات العنصرية، لا تقوى أبدًا على مواجهة هكذا أزمات؛ بل ستنهار مرة واحدة حتى دون مُقدمات..
ما يُؤكد ذلك معركة "طوفان الأقصى" المجيدة في يوم السابع من أكتوبر 2023؛ حيث لم يستغرق الأمر سوى 6 ساعات حتى كادت الدولة اليهودية المُغتصِبة أن تسقط بالكامل، لولا التدخل السريع لأمريكا، والجسر الجوي الذي نفذته واشنطن، تمامًا كما حدث في حرب أكتوبر 1973، فقد كادت القوات المصرية بدعم القوات السورية أن تواصل زحفها وتقدمها نحو مدن وبلدات الكيان، لولا الجسر الجوي الذي دشنته أمريكا آنذاك.
ثانيًا: غياب الأفق السياسي. وهنا يجب أن ننتبه إلى أن تصريحات عدد من القادة الإسرائيليين بمن فيهم المجرم نتنياهو، حول ضرورة ضمان استمرارية الدولة اليهودية وحمايتها من الاندثار والفناء، إنما هي دعوات تحمل دلالتين شديدتي الأهمية؛ الأولى: أنهم باتوا على قناعة تامة بحجم التهديد الذي يواجهونه، وهو تهديد وجودي ومصيري. أما الدلالة الثانية: فهي أنهم قد يستغلون هذه الفرضية لممارسة أبشع أنواع الإبادات الإنسانية في التاريخ، والسعي لاستعطاف العالم، على غرار قضية الهولوكوست واتخاذها مبررًا لابتزاز أوروبا. وهذا ما نراه حقيقة ماثلة أمام أعيننا، ولا أدل على ذلك من الإصرار الإجرامي لنتنياهو ومجلس الحرب على اجتياح رفح الفلسطينية، حتى وإن اعترضت الولايات المتحدة شريكته في كل الجرائم، حتى وإن هدد البيت الأبيض باعتزامه فرض عقوبات على إسرائيل حال شن الهجوم البري على رفح!
نقطة أخرى ترتبط بالتحلل الداخلي للمجتمع الإسرائيلي، ما يُؤكده مفكرون وباحثون إسرائيليون، بأنَّ إسرائيل ستزول لا محالة، وكان آخرهم الصحفي الإسرائيلي برادلي بورستون الذي ألّف كتاب "نهاية إسرائيل"، ويستعرض فيه الانحدار والانهيار المفاجئ للدولة الإسرائيلية، ويطرح سؤالًا غاية في الخطورة، مفاده: هل سيكون احتفال إسرائيل بيوم الاستقلال هذا العام آخر احتفال لها؟! في إشارة إلى أن إسرائيل ستزول في غضون عام من الآن!!
إذن هذه المُعطيات تقودنا إلى حقيقة ساطعة؛ وهي أن إسرائيل كيان- بمسمى دولة- غير قادر على الاستمرار، ولا يُمكن أن يستمر، لأنه تأسس على الجريمة والإبادة واغتصاب الحقوق، ومواطنيه ليسوا سوى مجموعة من المرتزقة الباحثين عن المال، تحت غطاء الدين؛ فالكثير من الإحصاءات والتقديرات تشير إلى أن اليهود العلمانيين يمثلون الشريحة الأكبر من المجتمع اليهودي، قد تصل إلى أكثر من نصف المجتمع، يليهم اليهود التقليديون (أغلبهم من السفارديم)، ثم اليهود الأرثوذوكس، وأخيرًا اليهود الحريديم؛ وهم اليهود الأصوليون المتشددون دينيًا، وهؤلاء لا تتجاوز نسبتهم 13% باعتراف دائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية.
حكومات إسرائيل المُتعاقبة- بدءًا من ديفيد بن غوريون مرورًا بجولدا مائير وإسحاق رابين وآرئيل شارون وإيهود أولمرت وإيهود باراك وصولًا إلى بنيامين نتنياهو وبيني جانتس- تفتقر دائمًا إلى الأفق السياسي، والرؤية الاستراتيجية التي تضمن استقرار الدولة أو عيشها في أمن وسلام مع محيطها؛ بل كان الهدف دائمًا ضمان التفوّق العسكري المزعوم، ومواصلة الاستيطان وابتلاع الأراضي. ولو استثنينا إسحاق رابين- الذي وقّع مع الرئيس الراحل ياسر عرفات بحضور الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلينتون، "اتفاق أوسلو"، في 13 سبتمبر 1993- لاكتشفنا أنَّه فعليًا لم يخدم قضية الأمن والاستقرار لدولته، ربما فقط أجّل المواجهة الحاسمة لسنوات؛ حيث اندلعت في سنة 2000 الانتفاضة الفلسطينية، ومن بعدها توالت المواجهات والحروب حتى وصلنا إلى "طوفان الأقصى".
وإسرائيل مجرد قاعدة عسكرية للغرب في قلب الشرق صاحب الحضارة العريقة والقوة البشرية الفذة، دورها ينحصر في إشعال الاضطرابات وضمان عدم تقدم الدول العربية، غير أنَّ هذا الكيان يتراجع وتتآكل قوته يومًا تلو الآخر مع تراجع هيمنة الغرب واضمحلال دور أمريكا في العالم، وانكفائها على نفسها نتيجة مشاكلها الداخلية وشيخوخة رؤسائها.
ويبقى القول.. إنَّ إسرائيل ليست سوى كيان بغيض يقوم على العنف والاستيطان والقسوة والوحشية والإجرام، ويعتمد في ذلك على سلاسل من الأكاذيب والضلالات التي يُريد للعالَم أن يُصدِّقها؛ سواءً أكذوبة الدولة الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، أو أكذوبة الأحقية التاريخية في أرض فلسطين، أو أكذوبة "هيكل سليمان" التي تنفيها التوراة نفسها، أو أكذوبة "الجيش الذي لا يُقهر"، أو أكذوبة "شعب بلا أرض لأرض بلا شعب"، أو أكذوبة عدم قتل المدنيين، وغيرها الكثير من الأكاذيب التي لا تنتهي.. بَيْدَ أنَّ المؤكد أنَّ المُعطيات السياسية والفكرية والعسكرية تقودنا إلى نتيجة حتمية واحدة؛ وهي أن إسرائيل زائلة، ولن تبقى كدولة آمنة ومستقرة، وما نراه اليوم ليس بدولة؛ بل بؤر استيطانية لاستعمار سكاني وعسكري في آنٍ واحد، وأنَّ النهاية وشيكة، وجارٍ كتابة آخر فصول هذه المهزلة الاستعمارية.