استشهاد رجل شجاع

 

محمد رامس الرواس

"أنا للجنة أحيا يا إلهي، في سبيل الحق فاقبضني شهيدًا، واجعل الأشلاء مني معبرًا للعز الجديد".

التاريخ 8 مارس من العام 2003، كانت الشمس قد ارتفعت بمقدار رمح من مشرقها، والجميع ذاهب لأعماله وقضاء مصالحه، بينما الطلبة الصغار في الطريق إلى مدارسهم بحي الشيخ رضوان بمدينة غزة بشارع اللبابيدي، حين شوهدت سيارة تقطع الشارع يجلس فيها رجل مهيب ومعه ثلاثة من مرافقيه، كان الرجل صحيح البدن يبلغ من العمر 50 عامًا، يلبس نظارة طبية وذا لحية ليست بالكثة، وكانت السيارة التي يستقلها في طريقها إلى الجامعة الإسلامية بغزة؛ كون بطل مقالتنا في تلك الفترة أستاذًا محاضرًا فيها.

فجأةً، ودون سابق إنذار سُمع صوتا خافتا لمروحيتين من نوع أباتشي، كانتا ترصدان تحرك المركبة وتقتربان بسرعة عجيبة منها، على إثر ذلك سقطت 4 صواريخ على السيارة دمرتها وأحرقتها لدرجة أن الكثير من الطلبة ممن كانوا يمرون بالشارع أصيبوا بجروح، ومنهم من أستُشهد جراء هذا القصف العنيف. كانت المهمة الشيطانية لطائرات الكيان الإسرائيلي هي تنفيذ جريمة اغتيال والقضاء على كل من في المركبة ولا مجال للخطأ، فقد كان الرجل المقصود هو أحد قادة حماس الذين لم يعد يحتمل الكيان الإسرائيلي تواجدهم بساحة المقاومة، فقد وصفه وزير الاحتلال جدعون عيزرا الذي شغل منصب نائب جهاز الشاباك (الأمن الداخلي) بأنه أخطر الفلسطينيين على الأمن الإسرائيلي. لقد سُمع دوي انفجار المركبة بكل الحي، بينما تناثرت العديد من قطع المركبة في الشارع عند حدوث جريمة الاغتيال هذه. كان هناك طفل فلسطيني صغير ذاهب للمدرسة صادف مروره بالشارع في تلك اللحظات واقترب من مكان الحادث، فوقعت عيناه على نظارة طبية مُلقاة على الرصيف، جراء عملية القصف التي وقعت، فالتقط الطفل النظارة بسرعة وضمها لصدره لقد كانت نظارة الشهيد أبو أحمد إبراهيم المقادمة. وقد أخذ ذلك الطفل الذي حصل على نظارة الشهيد إبراهيم المقادمة ساعة اغتياله النظارة التي التقطها بعد الحادث المؤلم وأصر أن يُسلِّمها بنفسه لإسماعيل هنية.

كانت تلك المركبة تقل القائد الشهيد الدكتور المفكر إبراهيم المقادمة ومعه مرافقوه الذين استشهدوا معه، وهو أحد الشخصيات القيادية والتربوية العظيمة في "حماس"، جاءت أسرته المتدينة من داخل فلسطين وأقامت بمخيم البريج وسط غزة ثم حي الشيخ رضوان، درس بغزة ثم أكمل تعليمه الجامعي بمصر بكلية طب الأسنان، بعدها التحق بالمقاومة عام 1976، وتدرج فيها حتى أصبح عضوًا بالمكتب السياسي في حركة المقاومة الإسلامية "حماس"، فكان الداعية والأستاذ والمضمد للجراح والمجاهد الفذ والمشارك في النضال بالفكر والكلمة. وتعرض المقادمة للاعتقال عدة مرات، وأمضى 8 سنوات بالسجون الإسرائيلية، وما يقرب من ثلاث سنوات بسجن السلطة الفلسطينية؛ نتيجة معارضته لاتفاق "أوسلو". كان أبو أحمد محبًا للقراءة بشكل ملفت للنظر، وله عدة مؤلفات منها: "معالم في الطريق لتحرير فلسطين"، وقد زامل الشيخ الشهيد أحمد ياسين، الذي أحب المقادمة كثيرًا، ونشأت بينهما أخوة خاصة. اتسم المقادمة بالتواضع والصبر، ولقد تم إبلاغه بخبر وفاة ابنه الأكبر أحمد وهو في السجن فاحتسب وصبر، كما اتصف أبو أحمد بغزارة علمه وتعدد مواهبه العلمية والعملية، وكان يتواجد دائمًا في المسجد المجاور للمستشفى الذي أنشأه، يمسك بأدوات التنظيف يخدم المسجد. لقد كان رحمه الله من الشخصيات التي يعجز القلم عن الإلمام بمآثرها، فلقد كان قائدًا عسكريًا وطبيبًا وعالِمًا وفقيهًا في العقيدة وشاعرًا وكاتبًا، وصفه أصحابه بأنَّه رجل قوي الشكيمة قوي التأثير ذو فكر عميق.

وأقيمت للشهيد القائد أبي أحمد صلاة الجنازة مرتين؛ الأولى بالمسجد العمري الكبير بمدينة غزة شهدها ما يربو على 200 ألف مصلٍ، اكتظت بهم الشوارع حول المسجد، وشُيِّعَ بعدها إلى مسجد مخيم البريج، فقد دعت المقاومة لذلك لما يُكِنُه الناس من محبة له، وعند وصول الجثمان الطاهر إلى دوار النصيرات، حدثت بشارة وكرامة أن حلقت فوق الجنازة ما يقارب 20 حمامة شاهدها المشيعون بأم أعينهم، وهي تقترب بهدوء من جثمان الشهيد فوق رؤوسهم وتهبط بصورة عجيبة حتى تكاد تلامس جثمانه، ثم ترتفع وتهبط تارة اخرى، كما روى الكثير من المُشيِّعين الذين كانوا يحملون الجنازة عن رائحة المسك التي كانت تفوح من جثمانه- رحمه الله- حتى إن البعض منهم التمس لمس الجثمان بيده ليأخذ بعضًا من رائحة المسك لنفسه من وجهه وجسده الطاهر، بينما صيحات التهليل والكبير ترتفع وتم الصلاة عليه مرة ثانية بمسجد البريج ودفن بالمقبرة المجاورة للمسجد.

لم ولن تنسى المقاومة الفلسطينية أحد أساتذتها الكبار إبراهيم المقادمة، ولاجل ذلك خُلِّدَت ذكراه بان اطلقت المقاومة اسم "إم 75" على أحد صواريخها التي صنعتها، تيمنًا بالحرف الأول من مقادمة، و75 هو مدى الصاروخ الذي دك المدن الإسرائيلية كثيرًا ونال منها.