خوارق العادات من زاوية علمية (3)

 

 

أ. د. حيدر أحمد اللواتي **

 

يستخدمُ البعض- وربما من دون انتباه- أساليب وأدوات لم يتم التحقُّق منها ومن صحتها، في محاولة منه لإثبات أفكار صحيحة؛ فالإيمان بوجود قوة إلهيَّة مُسيطِرة على الكون ومُهيمنة عليه، تدفع البعض بأن يبحث عن خوارق العادات لإثبات هذه القدرة الإلهية اللامتناهية؛ فسمو الهدف الذي يسعى له يجعله لا يتحقق من الوسيلة التي يستخدمها لإثبات صحة مدعاه.

وقد يتعدّى الأمر الى أن يربط بين الايمان بالوسيلة وبين الغاية برباط متين، بحيث يجعله يعتقد أن كل من يشكك بخوارق العادات التي يؤمن بها، فإنه يشكك بالقدرة الإلهية المهيمنة على هذا الكون، وكأن خوارق العادات التي يؤمن بها هي السبيل الوحيد لإثبات الهيمنة الإلهية على هذا الكون.

وهكذا الحال مع الكرامات المنسوبة لبعض الأولياء الصالحين؛ فاعتقاده بأنهم من أولياء الله وعباده الصالحين يجعله يتهاون كثيرًا في تقييم الكرامات المنسوبة لهم؛ بل قد يجد في قرارة نفسه أن لا ضرر من نشر تلك الكرامات المزعومة، ويكفي أنه سمعها ممن يثق به، فلا يحتاج الأمر الى أكثر من ذلك، وقد يكون ذلك شأنًا خاصًا به وهو مسؤول عمّا يؤمن به، لكن من المهم في هذه الحالة أن يتقبل الرأي الآخر والذي يشكك في صحة الكرامة المنسوبة، وعليه أن ينتبه أيضًا بأن من يرفض الكرامة المزعومة لا يعني أنه يُشكك في مقام أولياء الله الصالحين بل يشكك في الكرامة المزعومة ولا علاقة لذلك بمقام هؤلاء الأولياء الذين لهم مقام رفيع عند الله عز وجل.

وقد يتعدّى الأمر عند البعض، فتراه في عداء مع المعرفة العلمية نفسها، والسبب في ذلك أن المعرفة العلمية تحاول أن تفسر الكرامة وتنزع عنها "كرامتها" فتغدوا حدثا طبيعيا، لذا تجده يقف موقفا سلبيا من التفسير العلمي للحدث.

وفي هذه العُجالة سنسلط الضوء على ظاهرة معينة كثيرًا ما يُعبَّر عنها بأنها كرامة لبعض الأولياء، وهذه الظاهرة هي ظاهرة بكاء بعض الأشجار دمًا حزنًا على بعض الأولياء الصالحين، ومن المهم التأكيد هنا بأن علوم الطبيعة لا يمكنها نفي أصل الفكرة، فذلك أمر خارج اختصاصها وحدودها، ولكن علوم الطبيعة يمكنها التحقق من الحوادث التي تستخدم كمصاديق للفكرة العامة، فعلى سبيل المثال، هناك كنيسة في مدينة ويلز تدعى "نيرف"، وحسب موقع الكنيسة على الشبكة العنكبوتية فإن هذه الكنيسة يعود تاريخها الى القرن السادس الميلادي، وتوجد بها شجرة تنزف دمًا، وهي إحدى أشجار الطقسوس، وهي من الأشجار المُعمِّرة ويُقدَّر عمرها بـ700 سنة، ويدعي بعض المسيحيين بأن هذه الشجرة تنزف دمًا بعد أن تم صلب المسيح- حسب عقيدتهم- حزنًا وأسى على صلبه وقتله، وما زال حزنها باقٍ.

ولو حدّثت أي مسلم بذلك فإنه ربما يرفض التفسير المطروح؛ وذلك لأنه قد يرى في هذا التفسير مخالفة لنص قطعي ورد في القرآن الكريم؛ فالنبي عيسى لم يُصلب ولم يُقتل كما هو واضح من آيات القرآن الكريم.

لكن هذا النوع من التفاسير للظواهر الطبيعية غير مقتصر على المسيحيين؛ بل إن عددًا من المسلمين يؤمنون بحوادث مشابهة، فقد أوردت وكالة نون الخبرية بتاريخ 26 /1 /2008 بأن هناك شجرة في كربلاء تقطر دمًا في اليوم العاشر من شهر محرم الحرام، وهو اليوم الذي استُشهد فيه الامام الحسين، وفي عدد من المناسبات الدينية الأخرى المرتبطة بأهل البيت، وهذه الشجرة التي تُنسب لها هذه الكرامة هي شجرة مُعمِّرة يصل عمرها الى 150 سنة، كما أورد صاحب كتاب القصص العجيبة السيد عبد الحسين دستغيب حادثة مشابهة، وشجرة سدر أخرى في ايران تقطر دمًا في اليوم العاشر من شهر المحرم.

وأوردت جريدة "أخبار اليوم" المصرية على موقعها على شبكة الانترنت بتاريخ 7 يناير عام 2020، بأن هناك سدرة مُعمِّرة تقدر عمرها بـ500 سنة، تتواجد في محافظة قنا جنوب مصر؛ حيث إنها تقطر دمًا كل يوم جمعة، وذلك نتيجة جزعها على أحد الأولياء الصالحين ويدعى الشيخ نصر الدين، وهذه السدرة هي موضع احترام وتقدير وتقديس عند الكثير من أهالي المنطقة.

إنَّ افراز سوائل حمراء اللون من الأشجار ليس أمرًا خارج المألوف، فليس كل سائل أحمر اللون يشير الى الدم في الطبيعة؛ فهناك أشجار في اليمن مثلًا معروفة بدم الأخوين نسبة الى صراع قابيل وهابيل، تنزف سائلًا أحمر اللون عند تقطيعها، والسبب في ذلك تواجد مواد كيميائية معينة فيها تضفي لونًا أحمرَ على السائل، كما إن عددًا من أصناف الأشجار عندما تُعمَّر بما فيهم أشجار السدر، تقوم بإفراز مادة شمعيه تقترب من اللون البني وأحيانًا من اللون الأحمر، وذلك نتيجة للإصابة ببعض الأمراض نتيجة لبعض أنواع الفطريات. وقد تواصلت مع أحد الإخوة الأعزاء ويحمل شهادة دكتوراه في العلوم الزراعية، لسؤاله عن ذلك وأكد لي صحة الأمر، وأن النزيف الذي نشاهده في بعض هذه الأشجار المُعمِّرة إنما هو بسبب عُمر الشجرة واصابتها ببعض أنواع الفطريات، إلّا أن هناك من يعتقد بأن هذا الأمر هو من خوارق العادات وكرامات تظهر لبعض الأولياء!

إنَّنا نرى أن التحقق من هذه الادعاءات قبل نشرها مطلب مُهم؛ إذ تتوفر وسائل علمية لا حصر لها اليوم، كما إن الخبراء متواجدون في مختلف التخصصات، ويمكننا الاستعانة بهم.. ولذا فالتساهل في نشر وقبول هكذا أمور لم يعد مقبولًا؛ فالغاية لا تبرر الوسيلة.

** كلية العلوم، جامعة السلطان قابوس