حاتم الطائي
◄ "مذبحة الطحين" تؤكد تعمُّد الاحتلال تصفية الشعب الفلسطيني بدماء باردة
◄ الاحتلال يُماطل في "مفاوضات الهدنة" لمواصلة ارتكاب جرائم الإبادة
◄ ازدواجية المعايير والغطاء الغربي يمنحان الاحتلال حصانة من المحاسبة والعقاب
لا يتوانى الاحتلال الإسرائيلي الوقح عن مواصلة ارتكاب المزيد من الجرائم البشعة؛ إذ صار بحكم الواقع مُتخصصًا في جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، وكأنه وكيل الشيطان على الأرض، يُدمِّر كيفما شاء وينسف وفق ما يحلو له، ويحرم البشر من أقل حقوقهم الإنسانية، كسرة خبز وشربة ماء!
قبل أيام فُزِعنا بالمذبحة الإجرامية التي نفذتها قوات الاحتلال في غزة، والتي أطلقنا عليها "مذبحة الطحين"؛ إذ باغتت القوات بكل خسة ونذالة الفلسطينيين العُزل وهم يسعون لاستلام المساعدات الإنسانية والإغاثية لسد رمقهم والحيلولة دون أن تفتك المجاعة ببطون صغارهم وكبارهم، فأطلقت القوات وابلًا من الرصاص الذي أسفر عن استشهاد أكثر من 100 فلسطيني وإصابة ما يزيد عن 300 آخرين. ومع الأسف الشديد ورغم التنديد الإقليمي والدولي، إلّا أنَّ الغطرسة الإسرائيلية ومن ورائها العنجهية الأمريكية، لم تحرك ساكنًا؛ بل زعمت أنها لم تطلق رصاصة واحدة، في كذبة فجَّة وسخيفة تُشبه الكذبة الحقيرة التي أطلقتها إسرائيل بعدما قصفت مستشفى المعمداني وأودت بحياة 500 إنسان بين مريض ومدني كانوا يحتمون بالمستشفى في الأسابيع الأولى من العدوان الغاشم المستمر منذ 148 يومًا.
ما أشد الشعور بالحسرة والعجز واليأس ونحن نرى إخوتنا في فلسطين، يتعرضون لأعنف إبادة جماعية في التاريخ الحديث مع سبق الإصرار والترصد، إصرار على الإبادة وترصُّد لكل فلسطيني؛ سواءً الآمنين في بيوتهم إبان المرحلة الأولى من العدوان، أو النازحين من الشمال إلى الجنوب في مرحلة ثانية، أو القابعين في أسوأ ظروف معيشية يُمكن أن يتخيلها بشر؛ حيث يعيشون في بيوت من الأكياس البلاستيكية أو الخيام المُهترئة في درجات حرارة تقترب من 10 مئوية، ووسط أمطار غزيرة تسقط عليهم في هذا الطقس شديد البرودة. لكن المُعاناة الحقيقية والأعنف لأشقائنا في فلسطين، تتمثل في خطر الموت جوعًا؛ إذ إنَّ نقص الطعام والمياه الصالحة للشرب إلى جانب انعدام الأدوية تقريبًا، كلها عوامل تفتك بهم، مع الأخذ في عين الاعتبار الأمراض والمشكلات الصحية الناتجة عن سوء التغذية، مثل الهُزال.
لقد تزامنت "مذبحة الطحين" مع المفاوضات الشاقة المنعقدة في باريس أو القاهرة أو الدوحة، والتي تُؤكد أنَّ المُعتدي الإسرائيلي يُماطل في إبرام صفقة لوقف إطلاق النار وتبادل الأسرى، في محاولة بائسة منه لاصطناع نصر زائف، لكن هيهات هيهات أن يُحقق أي نصر والمقاومة الباسلة تقاتله بإرادة من حديد وبعزيمة تخترق أشد التحصينات. وقعت المذبحة بينما أطفال غزة يبكون ويصرخون من شدة الجوع والعطش والبرد، ورجال ونساء غزة يئنون تحت وطأة الظروف المعيشية القاسية، بلا حول لهم ولا قوة. سالت الدماء واختلطت بلونها الأحمر مع الطحين الأحمر، في مشهد مأساوي يبرهن عبثية ما يجري؛ فانعدام الضمير والتواطؤ من قبل الولايات المتحدة الأمريكية من أبرز أسباب استمرار هذا العدوان؛ لأنَّ العدو الإسرائيلي قد سقط فعليًا في السابع من أكتوبر 2023، وانهار تمامًا، لولا جرعة الإنعاش التي أمدته بها واشنطن؛ سواءً في صورة مبيعات سلاح بمليارات الدولارات أو بمليارات أخرى نقدية لدعم اقتصاد الكيان المحتل، أو حتى في صورة "فيتو أمريكي" مُناهض لكل القيم الإنسانية والأعراف البشرية التي تُحتِّم عدم الاعتراض على أي جُهد يستهدف منع القتل والإبادة. لكن مع الأسف، لا ترى الولايات المتحدة في إسرائيل المُجرمة سوى كيان وظيفي يؤدي مهمته على أكمل وجه، حتى لو تمادى هذا الكيان العنصري البغيض في سياساته وهمجيته، وارتكب أبشع المجازر.
ومما يُؤكِّد أنَّ هذا الاحتلال المُجرِم لا يجد من يردعه، أن القوى العالمية تكيل بمكيالين فيما يتعلق بالعدوان على غزة، إذا ما قورن الوضع بما يحدث في أوكرانيا، ونتعجب بشدة من النفي الغربي لفضيحة ازدواجية المعايير؛ حيث إن الاحتلال يعلم تمام العلم أنَّه لن يُحاسب أو يُعاقب على ما يرتكبه من مذابح وجرائم إبادة جماعية وجرائم حرب. فعلى الرغم من انعقاد محكمة العدل الدولية وبدء النظر في قضية الإبادة الجماعية وإلزام المحكمة إسرائيل باتخاذ إجراءات تضمن عدم ارتكاب جريمة الإبادة الجماعية، إلّا أن الاحتلال المُجرم ضرب بقرارات المحكمة عرض الحائط، وأدار ظهره لقضاة المحكمة، ونفَّذ المزيد من الجرائم والمذابح، ربما بصورة شبه يومية منذ صدور قرار محكمة العدل الدولية.
بكل حزنٍ وأسى نقول إننا لم نعد قادرين على وصف ما يحدث في قطاع غزة وصفًا دقيقًا يُعبِّر عن حجم وطبيعة الكارثة والمصيبة التي يعيشها الفلسطينيون هناك، ولم تعد كلمات مثل "المجاعة" و"الإبادة الجماعية" و"النزوح" و"المذابح" وغيرها، تعكس بشكل صحيح الوضع في القطاع، فما يحدث يفوق تصوّرات العقل، ويتجاوز حدود التفكير؛ حيث إننا نتعامل مع عدو مُجرم مُتعطش دومًا لدماء الأبرياء، لا يتردد لحظة في قتل رضيع أو طفل أو امرأة أو عجوز أو حتى شاب، لا يفكر أبدًا في عواقب ما يرتكبه من جرائم ضد الإنسانية، لأنه يضمن عدم المحاسبة، ويحظى بغطاء دولي متواطئ وحقير. إسرائيل المُجرمة أشبه بسفاح دموي يقتل كل ضحاياه الذين يلتقي بهم، والسلطات المعنية إما أنها لا تستطيع ردعه، أو أنها متواطئة بهدف تحقيق مآرب خسيسة ووضيعة.
لقد أصبح الشعب الفلسطيني بعد نحو 5 أشهر من العدوان الغاشم، في أسوأ وضع يمر به شعب في التاريخ؛ بل أسوأ مما حدث لليهود أنفسهم إبان المحرقة النازية، إذا صحت حقيقتها، وهذا ما عبّر عنه بكل شجاعة الرئيس البرازيلي المناضل لولا دا سيلفا، والذي جدد تأكيده على أن ما يحدث في غزة يشبه المحرقة النازية لليهود إبان الحرب العالمية الثانية. وهو الوصف ذاته الذي أعلنه الرئيس الكولومبي جوستافو بيترو؛ إذ علق على مذبحة الطحين قائلًا: "عندما طلبوا الطعام، قُتل أكثر من 100 فلسطيني على يد نتنياهو. هذا يسمى إبادة جماعية، ويذكرنا بالمحرقة، حتى لو كانت القوى العالمية لا ترغب في الاعتراف بها". ولا ريب أن تصريح الرئيسين البرازيلي والكولومبي يعكسان موقفًا نضاليًا مؤازرًا للشعب الفلسطيني، لكن ولأنَّ الكيان المُحتل لا يتصور أبدًا أن يجد من يُحاسبه، فقد قامت قيامته بعد هذين التصريحين، وجُن جنون الإدارة الأمريكية، وهذه ردات فعل يصفها علماء النفس بأنها ناتجة عن حالة النكران التي يُصر عليها الكيان ومن ورائه أمريكا، الداعم الأكبر له والشريك الأول في جريمة الإبادة الجماعية. وحالة النكران هذه تضع مسؤولين في الإدارة الأمريكية في حرج بالغ يدفعهم إلى مُمارسة الكذب علانية، والارتكان إلى المعايير المزدوجة أمام الملايين وعبر شاشات التلفزة، عندما يتعمدون بكل خسة ونذالة أن يُبعدوا عن الاحتلال الإسرائيلي تهمة الإبادة، تارةً بادعاء أن "من حق إسرائيل الدفاع عن نفسها" وتارة بزعم أن "لكل حرب خسائرها".. فما أحقر المُبررات وما أشنع الحُجج!
إنَّ تعمُّد الكيان الإسرائيلي الغاصب قتل الأبرياء مع سبق الإصرار والترصد يؤكد بما لا يدع مجالًا للشك أن هذا الجيش المُجرم يرتكب أعنف إبادة جماعية في التاريخ الإنساني، وأنَّ دولة الاحتلال لا هدف لها سوى طرد الفلسطينيين من كامل أراضيهم التاريخية، وأن حكومة التطرف والإرهاب في تل أبيب تسعى فقط إلى إشباع رغبة القتل على الهوية، فكل من هو فلسطيني مُباح قتله وتصفيته، سواء بالقذف المدفعي وبالقنابل وبالطائرات وبالأسلحة الفتّاكة، وبسلاح التجويع وبسلاح الإذلال والتصفية المعنوية قبل الجسدية.
ويبقى القول.. إنَّ على جميع الشعوب والدول المؤمنة بحق الإنسان في العيش الكريم، أن تظل تُناضل من أجل حقوق الشعب الفلسطيني، الذي يُعاني من أطول احتلال في التاريخ الحديث، والذي يتعرض لأبشع المذابح وجرائم الإبادة الجماعية منذ الحرب العالمية الثانية.. ورغم كل هذا البطش والعدوان الهمجي، نؤكد بيقين راسخ أن النصر قادم، وأن تحرير كامل التراب الفلسطيني سيتحقق يومًا، وسيكون الدم الفلسطيني الطاهر هو المفتاح الذي يقودنا إلى الصلاة في بيت المقدس، في المسجد الأقصى المبارك، أولى القبلتين وثالث الحرمين.. فاللهم نصرك الذي وعدتْ.