قصة القرية العالقة (16)

 حمد الناصري

توسّط الشاب الصغير ـ أحمد ـ مجموعة رجال مُؤيدون لتراث القرية وموروثها العتيق ومُناصرون لإيقاف المشروع الساحلي، رجال القرية وصِبْيتها وشُيوخها الْتَفّوا حوله مُشَكّلين حَلقة دائرية، وهو على طرفها يُلْقي عليهم كلاماً ذا شأن للقرية ومكانتها وأخذ يُصوّبهم إلى كُلّ مَوضع وحَجَرة يشرح لهم ، ويُفصّل كُلّ منهما تفصيلاً دقيقاً.

 قريتنا العالقة وساحلها الغربي وجبالها الصمّاء وأخوارها وخلجانها مكان آمن للسّفُن ومَلجأ للبحارة السائرين والعابرين قديماً وحديثاً.. قريتنا مكينة قُبالتها البحر، جمالها فريد من بين قرى ساحلية مُمتدة على مدخل شقّ مائي يُعرف بخور الملح ، وتربطه بساحلنا الطويل قُربة وجُود ، وكينونة مُثِيرة للإعجاب.؛

تاريخ قريتنا الساحلية طويل مُمتد عبر سِنين طويلة وسِنين عريضة من التفاعل ، فالقرية الكبرى كانت ترعى قرى الساحل ، ولا تخرج تلك القُرى المُتناثرة عن أمْرة القرية وأخوار الملح حدثت في الزمن القديم بسبب طوفان كبير جرف التربة وتسرّبت إلى البحر  ثم عادت كشق إلى الداخل ، وذلك الشق تشكّل كبُحيرة ضَحلة وانحبست في  باطنه تُربة رَخوة ، وأدّت قوة الشمس والرياح إلى تبخّر مياه البحر وتكلّست بسبب تراكم أملاح شبه رطبة على سطح التربة.

قال عنها أحد العابرين ، قرية البحر .. هي أسّ القرية العالقة وتشمل البُحيرات الساحلية المالحة ، جبالها مُتعرّجة كأسْنان المِشْط، وأخوارها وخِلْجانها ذاكرتا المكان التاريخية وهيَ عبارة عن حديقة صخرية  في البحر العميق.

وكتب الرحالة "فاسكول" وهو أحد العابرين بتجارتهم في البحر بأنها ـ أي القرية العالقة ـ  مُعجزة الزمان، وناسَها قِيَم وترحيبهم ابتسامة لا تنقطع ، أخلاقهم سَمْت وأدب غير مُنقطع وبتوادّهم تألفهم في لحظات معدودة والمجتمع مُتجانس بالشِيْم والكرم ومُتقارب بالأصالة وهذه  يَعتدون بها ، وهي مَفخرة  لهم ، كأنها تخلّقت فيهم ، واختصّتْ بهم ، وكأنهم أجمعوا على توريثها وباتتْ سِرّ المُجتمع ، لا تعدّي ولا اعْتداء على حق أحد بينهم.

وزاد "فاسكول" في وصْف أناسيّهُم وهو يَعْبر مَمرّها العميق، ماضيهم جميل ومُشرّف وأفعالهم حميدة طيبة ، ولن تستطيع أنْ تنفكّ عن أحدهُم أو تنأى بنفسك عن تعايشهم ولن تقدر أنْ تبقى بعيدًا عن رحابتهم.. وقد تجد عند كثير منهم حِرْصٌ كبير على نشر الإيجابية ، وتحفيز شديد على التماسك الرشيد ، أخلاقهم خالدة وذكرياتهم لا تُنسى.؛

والبحار ابن ماجد عُرف في المرجعيات التاريخية والبحرية ،بأنه  هو الذي أرشد المُغامر " فاسكول " حين علقَ عند نهاية راس الاستراحة ولم يكن لديه دراية بطريقة الدوران، عند راس اليابسة والغُرباء  يُسمونها نقطة الامل وابن ماجد دوّنَ هذه المُلاحظة في نص مرجعي:

ـ وقفتُ كملاح عربي عند راس اليابسة ، اسْتعد للدوران ، وكنت قوياً مُتماسكاً عند نهاية اليابسة، مُعْتزاً بما أنجزتهُ من تضحيات وشُموخ ، فالوقوف عند نهاية راس اليابسة تجربة فريدة لم يُشاركني فيها أحد، وجرأة مُتفردة ، وكانتْ تجربي مُتفرّدة ، ومكثتُ ليال وأياماً حُسوماً ، مُتتالية لا توقّف فيها ولا انقطاع ، ويتعاقب الليل والنهار وأنا في ترقّب لتجديد أفكاري فأكون على كمال تجربتي البحرية وتحقيق الهدف الذي أصْبوا إليه وكانَ سَعيي إلى اكتشاف لم يسبقني إليه أحد من اهمّ أولويّاتي وتحقق لي ذلك فلم يصل أحد قَبْلي رأس اليابسة ولم يكتشفها أحد غيري.؛  وطرتُ فرحاً بوصولي إلى نهاية اليابسة وسُررتُ بنجاح الدّوران حول راس اليابسة.

 وأبْهرتُ المُستكشفين وعلى رأسهم بحار يُعرف بـ "فاسكول" تاهَ وحار في عرض البحر المفتوح ، ولم يعد بقادر أنْ يستجمع قُواهُ لأيام طُوال قضاها بين عاصفة تنشط ، وأمواج عاتية يراها بأم عينيه يُداهمه الموت ولا سبيل لتحاشيه ، يستشعر رغبة الحياة فيقاوم بألمٍ شديد ، وقد هدّهُ الوهن والعياء  ، مفتوحة عينيه ، لم تَعد لديه قوة تُمكنه للتفكير فالتّعب والضَعف في صورة ناضِرة إلى البحر المُمتد وناظرة إلى عُمق لا نهاية له.

ولم أتركه لوحده ، وانقذتهُ  إلى مسلك آخر أكثر أماناً وقلتُ له ، مُلمحاً إلى ما افضى إليّ بأنه مُستكشف لطريق ناعمة لتجارة مفتوحة لا خطر فيها ، وسِرتُ به إلى راس اليابسة ، فاستراح عندها لأيام وليال ، حتى عادت إليه القوة مُجدداً ، واستعانَ بي ، فأرشدتهُ إلى معرفة البحار العميقة والمفتوحة والأكثر عُمقاً في ظُلمات لا قياس لها ، فسارَ بلا غرور وكان وضْعُه آمناً.؛

وحدثتُه بعلم وفهم .. فإذا استويتَ أنتَ ومن معك فاسْلك المسار الآخر وأقبِلْ بوجهك إلى راس اليابسة والْتفّ حول راس الدورانْ ، ولا تتسرّع فإنّ ما بَعد العُمق شدّة من البروق العاصفة وظُلمات سماوية كأنما رُكّبتْ فوقها ، والبحر غليظ كأنه طبقات فوق بعضها ، فلا تذهب نفسك حسرات ولا تعجل ، فالعُجالة شرٌ لا رجاء بَعدها ولا أمل مُنتظر فيها .؛

ـ لماذا.؟ قال المُسْتكشف فاسكول  . وزاد عليها .. أليستْ نهاية اليابسة مُنطلقاً إلى مُغامرة هادفة.؟

ـ إبحارك بَعد استراحة اليابسة خطير جداً،  وأنصحُك ، أنْ تَقِف وتتريّث وتمكثُ أياماً معدودة.. فمن الخطأ أنْ تُجابه عواصف أو تقف ضِد رياح تصدم بعضها بقوة عنيفة ، والرياح العاصفة تُلازم المكان وشدّة البروق لا تتوقّف.؛

وأيضاً ، قرأتُ في ذات الكتاب البحري ، ما خطّه ابن ماجد بيده ، وقد دَوّن نشاطاته البحرية ومُشاهداته الحيّة ورصَد فيها تحرّكاته البحرية ، ومُلاحظاته الدقيقة في علم البحار وبيّن تفاصيلها وانواعها وأساليب التعامل معها، وسرد قصصاً بحرية وحكايات رَوى كثير منها عن سيرة "فاسكول" ذلك المُستكشف والمُغامر الذي سبق أقرانه في الوقوف عند راس الدوران ، وشكى المُستكشف لإبن ماجد حُزنهُ وأفضى إليه قصِصاً مُرعبة في عالم البحار وقد نجى منها بأعجوبة.؛

وقال ابن ماجد في ذلك النص مُؤكداً:

ـ  بقيتُ مُنتظراً أرقب حركة رياحٍ عواصف شديدة لا تهدأ وطال انتظاري بلا أمل ، فمنعتُ وأوقفتُ سُفن مُبحرة ودعَوتها بتغيير وجهتها والدوران من رأس اليابسة وعدم المُجازفة بالسير ناحية بَحر العواصف، وهنالك وجدتُ سُفناً قضتْ أياماً حُسوماً، صَعبة وقاسية تحطّمت اكثرها وغرق بحارتها ، والسَفينة تؤزّها العواصف أزّاً بلا رحمة ولا هوادة، وتسارعت الأحداث المُلهمة وقد صيّرتنا أقدراها إلى قوة خفيّة فأظهرنا صَلابة غير مُعتادة ، وتلك القوة الخفية كأنها تُعرض علينا أمراً ما ، فلجأنا إلى القوارب واسْتمسكنا بسفينتنا ، والعواصف تؤزّها ، ولم نشعر بالأمان إلا حين ابتعدنا عن بحر العواصف.

 ومددتُ بصري حدّ الشوف فلم أرَ سُفناً جنحتْ إلا التي قد تحطّمت ، وغرقتْ أحلام مُبْحريها ووئِدَتْ مُغامرتهم . وبحرٍ العواصف  بحر لا تتوقف عواصفه البَردية والبروق لا تنقطع ، وكان ملامح البحارة يائسة ووجوههم كالحة وقد تسلّل إلى نفوسهم ضَعف ووهن فأثر جسامة الرُعب والخوف كبيراً جدا.

التفتُ إلى رفيقي وقلتُ حسْبُك .. واجبنا نُنقذ السفينة ومن عليها .؟ وكان رفيقي في وجلٍ وقلق  ، ينظُر إلى السفينة ويبحث عن فكرة نُواجه بها خطر السفينة.؛ وتمتم :

 ـ ما هذه الحماقة التي ارتكبها قائد السفينة.؟ ماذا لو تحطّمت السفينة في عرض بحر العواصف.؟

وانطلقنا بسفينتنا المُسمّاة بـ الشّهاب.؛ قبل أنْ يُخيّم الظلام على المكان والعواصف تشتد ساعة بعد أخرى ، والسفينة بفعل بفعل الأمواج العاتية تترنّح وكادت تغرق لولا سُرعتنا في إخلاء من عليها ، وأخرجنا الماء بواسطة بحارتنا الذين يُنفذون عملهم بدقة مُتناهية ، وبعد أن كُتب لهم النجاة ، زودّتهم بكل ما يحتاجون إليه ، وأرشدّتهم للسير إلى راس اليابسة  والدوران إلى الجهة الأخرى الأكثر أماناً .؛

تعليق عبر الفيس بوك