المرافعة التاريخية لسلطنة عُمان

حاتم الطائي

 

◄ عُمان كشفت للعالم حقيقة الممارسات الإسرائيلية المخالفة للقانون الدولي

◄ إسرائيل دولة احتلال ينبغي وضع حدود فورية لها لوقف انتهاكاتها

◄ المحاكمة الدولية وفضح الممارسات الصهيونية من نتائج "طوفان الأقصى"

الموقفُ العُمانيُّ المُشرِّف والراسخ تجاه القضية الفلسطينية، تَجَسَّدَ بكل إخلاص ووفاء في المرافعة التاريخية التي قدمتها سلطنة عُمان أمام محكمة العدل الدولية، واستعرض من خلالها السفير الشيخ الدكتور عبدالله بن سالم الحارثي، سفيرنا لدى مملكة نيذرلاندز، والذي صَدَحَ بقول الحق وفَضَحَ جرائم الاحتلال الإسرائيلي في حق الشعب الفلسطيني الشقيق، الذي ومنذ أكثر من 75 عامًا يعيش تحت نير الاحتلال ويتجرع الظلم والإذلال يوميًا، في سابقة لم يسجّلها التاريخ الحديث، فضلًا عن جرائم الإبادة الجماعية وجرائم الحرب التي يرتكبها الاحتلال منذ السابع من أكتوبر الماضي، وسط صمت وخذلان عالمي.

وسيكتب التاريخ أنَّ سلطنة عُمان وعبر دبلوماسيتها الرصينة وشجاعتها السياسية، كشفت للعالم أجمع حقيقة الممارسات الإسرائيلية التي تتعارض مع أبسط قواعد القانون الدولي وحقوق الإنسان، ليس أقلها ما يتعرض له قطاع غزة منذ أكثر من 141 يومًا، من "أبشع الفظائع وأعمال الإبادة الجماعية في العصر الحديث، استُشهِدَ على إثرها أكثر من 29 ألفَ شخص، وأكثر من 68 ألفَ جريح، إضافة إلى 2.2 مليون يعيشون تحت وطأة الفقر في ظروف لا تُطاق، ونقلهم من مكان إلى آخر في انتهاك واضح للأعراف الدولية".

وقد استندت المرافعة الشفهية لعُمان أمام محكمة العدل الدولية على ما تفرضه القوانين الدولية من حقوق للشعب الفلسطيني، وكذلك الإجماع الدولي الواسع الذي يُؤكد حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير وإنشاء دولته المستقلة، وإنهاء الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، فضلًا عن إدانة الاستيطان المُمنهج الذي يلتهم الأراضي الفلسطينية ويُصادرها من الفلسطينيين أصحاب الأرض والحق، علاوة على ابتاع سياسات تهجير قسري للفلسطينيين، وترسيخ منظومة فصل عنصري قائم على التمييز، وتقسيم المناطق، والتخطيط، والاستيلاء غير القانوني على الأراضي، والاعتقال التعسفي، والعنف الممنهج منذ عام 1967، وكل هذه الممارسات الوقحة مُجرّمة بنص القوانين الدولية، وهو ما برهنت عليه السلطنة في دفوعاتها أمام المحكمة الدولية، وفنَّدت من خلالها عدم شرعية الاحتلال وانعدام قانونية الإجراءات التعسفية التي تفرضها سلطة الاحتلال، مع التركيز على أنَّ "القانون الدولي لا يجيز الاحتلال الدائم أو الاحتلال المُمنهج من خلال فرض تركيبة سكانية مُغايرة" في أي أرض.

هكذا كانت المرافعة التاريخية لسلطنة عُمان أمام محكمة العدل الدولية ضد دولة الإجرام والإرهاب الإسرائيلية، قويةً في فحواها، فصيحةً في بيانها، مُتماسكة في بُنيانها، تنطبق عليها القاعدة الربانية "وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا"، فالحق العُماني المؤيد للحق الفلسطيني أصاب الباطل الإسرائيلي في مقتل، وعرّى خسة المُحتل وفضح مُمارساته القمعية والمُخالفة للقوانين والأعراف الدولية، وألمح بصورة لا تقبل الشك إلى دور المجتمع الدولي في وضع "حد فوري وعير مشروط" للممارسات غير القانونية، وأن تدعم دول العالم هذا التوجه من أجل إحقاق الحق، ومنحه لأصحابه الفعليين.

والحقيقة في هذه المرافعة التاريخية والتي تأتي ضمن مرافعات تتقدم بها 52 دولة ضد الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية، في حشد دولي غير مسبوق؛ إذ لأول مرة في تاريخ محكمة العدل الدولية يترافع هذا العدد الكبير من دول العالم ضد دولة بعينها، ما يُؤكد مدى الجُرم الذي تُمارسه دولة الاحتلال الإسرائيلي، وبشاعة الجرائم التي ترتكبها في غفلة من القانون الدولي، وغياب شبه تام من أي إدانة دولية حقيقية صادرة عن المؤسسات المعنية، ولا سيما مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، والذي فشل 3 مرات في إصدار قرار يقضي بوقف إطلاق النَّار في غزة، نتيجة للفيتو الأمريكي، والذي يدعم بلا مواربة جرائم الاحتلال.

ورغم التواطؤ الدولي تجاه ما يحدث في غزة منذ السابع من أكتوبر، إلّا أنَّ ما تشهده جلسات محكمة العدل الدولية، يؤكد أن "طوفان الأقصى" حقق العديد من المكاسب للقضية الفلسطينية، في مُقدمتها إطلاق صحوة عالمية ويقظة ضمير إنساني في دول العالم الحرة، ولفت أنظار الشعوب في الدول المتواطئة والداعمة للكيان الصهيوني، لما ترتكبه آلة الحرب والعدوان الإسرائيلية من مذابح وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بحق الشعب الفلسطيني الأعزل. ودليل ذلك ما نشهده كل أسبوع تقريبًا من تظاهرات حاشدة يشارك فيها عشرات بل مئات الألوف حول العالم، تنديدًا بمذابح الاحتلال والصمت الدولي المُخزي تجاه ما يُرتكب من انتهاكات جسيمة للقانون الدولي.

أيضًا، لأول مرة تمثل إسرائيل مُتهمة أمام أعلى محكمة تابعة للأمم المتحدة، ولأول مرة تترافع 52 دولة ضد إسرائيل، للدفاع عن حقوق الشعب الفلسطيني الذي يئن تحت وطأة أبشع احتلال عرفته البشرية. لقد أسهم "طوفان الأقصى" ليس فقط في فضح أكذوبة "الجيش الذي لا يُقهر"؛ بل أيضًا في إيقاظ الضمير الإنساني وتنبيه العالم لما يجري في فلسطين، ولا شك أننا لم نكن نتخيل أن تنظر محكمة العدل الدولية في شأن الاحتلال الإسرائيلي لولا ما أسفر عنه "طوفان الأقصى" من نتائج، رغم أنَّ الثمن كان باهظًا للغاية، ذهب ضحيته عشرات الآلاف من الشهداء والمصابين، وملايين النازحين.

من المؤكد أن العالم أجمع بات على وعي تامٍ بجرائم الاحتلال وممارسته الإجرامية بحق الشعب الفلسطيني، كما إن حقيقة الدور الإرهابي لدولة الاحتلال في المنطقة والعالم، قد تكشفت لأحرار العالم، فها هو الرئيس البرازيلي لولا دا سيلفا، يفضح دولة الاحتلال الإسرائيلي، ويصب عليها جام غضبه وينطق بالحق في وجه هذا المحتل البغيض؛ بل والأهم من ذلك أنَّه يرفض التراجع عن تصريحاته الثورية، ويُؤكد عليها ويُكررها، ترجمةً لوفائه الصادق للقواعد الإنسانية، وتأكيدًا على ما يُؤمن به من مبادئ إنسانية تدفعه لإدانة المجرم والوقوف في صف المُستضعفين ودعم حقوقهم.

اليوم.. أصبحت القضية الفلسطينية هي القضية المحورية الأولى في العالم، بعد عقود طويلة من التهميش والإهمال والتواطؤ والخذلان والصمت، بات شعب غزة والتعاطف معه يتصدر عناوين الأخبار، حتى في تلك الوسائل الإعلامية التي اتخذت موقفًا مؤيدًا للاحتلال في بداية الأمر، ورغم استمرار دعمها للرواية الإسرائيلية، إلّا أننا أصبحنا نجد مؤسسات إعلامية مثل "سي إن إن" و"إن بي سي" و"يورو نيوز" وحتى "رويترز"، قد غيَّرت قليلًا في توجُّهَاتِها التحريرية وتراجعت نسبيًا عن انحيازاتها السافرة، وكل ذلك بفضل شجاعة الشعب الفلسطيني، وبسالة المقاومة الصامدة، وصلابة الموقف الإنساني العالمي المؤيد لحقوق الشعب الفلسطيني والرافض والمُندد لجرائم الاحتلال الصهيوني.

إنَّنا وإذ نفخر بالموقف العُماني التاريخي، لنُعبِّر عن صادق الشكر والتقدير للسياسة الحكيمة لوطننا الغالي، وما تبذله الدبلوماسية العُمانية بقيادة معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية، من جهود لا تتوقف لمؤازرة ودعم الحق الفلسطيني، وهنا يجب علينا أن نُسجِّل مُجددًا أنَّ معالي الوزير كان أول مسؤول عربي ودولي يدعو بكل صراحة ووضوح وبكلمات لا تقبل التأويل، لضرورة تقديم الاحتلال الإسرائيلي للمُحاكمة الدولية، ومُعاقبته ومُحاسبته على ما يرتكبه من مذابح وجرائم، فضلًا عن دعوة معاليه أيضًا لعقد مؤتمر دولي عاجل للسلام، لمناقشة آليات حل القضية الفلسطينية ووضع حل نهائي وعادل ودائم للقضية الأولى؛ قضية فلسطين.

ويبقى القول.. إنَّنا على يقينٍ راسخٍ بأنَّ سلطنة عُمان واستنادًا إلى سياساتها الرصينة، وحيادها الإيجابي، ونهجها الدبلوماسي القويم، ستظل خيرَ داعمٍ ومؤازرٍ للحق الفلسطيني، انطلاقًا من الحرص على نشر السلام والتعايش والتآخي بين شعوب العالم، ورفضًا لأي انتهاكات أو جرائم تُهدد السلم الدولي.. كما ستظل عُمان داعية للسلام وقبلة للباحثين عن الاستقرار، وهذه مسؤولية تاريخية لا حياد عنها، وموقف نبيل وسامٍ يؤكد الثوابت الوطنية لعُمان، والتزامها الأصيل بالقانون الدولي الإنساني ووقوفها الدائم إلى جوار الحق والخير والسلام.