يوسف عوض العازمي
@alzmi1969
"عندما أسافر كنتُ أصطحب معي كميّة تفيض عن حاجتي من الأمتعة، حتّى لو كانت رحلتي لا تتعدّى وسط المدينة!! بعد مدّة طويلة في تحليلي لهذا السّلوك؛ اكتشفتُ أنّهُ هاجس الخوف من عدم العودة". إدوارد سعيد.
************
في كُتب السيرة الذاتية أو المذكرات خاصة للشخصيات المؤثرة على نسق معين من الزمان سواء من حيث العلمية أو الرؤية الثقافية أو البروز الإجتماعي أو حتى النضال السياسي، وعندما تجد كل ما سبق يتمحور ويتجسد في شخصية واحدة سيكون الوقع مُبهرًا ومُشوِّقًا للقراءة أكثر والحديث أكثر، والكتابة أكثر.
هُنا يتقيد المقام بأحد أهم الرموز الثقافية في رحلة الفلسطينيين، ألا وهو الأستاذ الاكاديمي والمفكر إدوارد سعيد. قبل كتابة هذا الكلمات تجولتُ بين 3 كتب باللغة العربية تحدثتْ عنه، وكان هو عنوانها البارز، كتاب "الاستشراق"، وكتاب "خارج المكان"، وكتاب "إدوارد سعيد أماكن الفكر"، إلى جانب التجوال عبر مواقع إلكترونية للبحث عنه، ناهيك أنه قبل ذلك كله قرأتُ تلك الكتب ولعل أهم ما أثار اهتمامي هو كتاب "خارج المكان"، ترجمة فواز طرابلسي، ربما لأنه من كتب السير والمذكرات التي أميل إليها.
لماذا أدوارد سعيد؟ سؤال طرأ على بالي قبل كتابة هذه الكلمات، فهو كسيرة ذاتية أُشبِعَ بحثًا، وقلمّا تجد مهتمًا بالأدب العربي وتحديدًا في النقد الأدبي إلّا وتجد له قراءة أو فكرة او اهتمامًا بهذا المُفكِّر، وهو أستاذ الأدب المقارن في جامعة كولومبيا بنيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، بالطبع لأنه قد يكون الأهم بين الذين امتطوا صهوة التدريس والتفكُّر في النقد الأدبي، فقد كانت ولا تزال مؤلفاته تُدرَّس في أغلب الجامعات؛ في طوكيو أو برلين أو جوهانسبورج أو حتى في مِدراس (عاصمة ولاية التاميل الهندية)، وبالطبع في مدارس الأدب العربي في الجامعات بأقسامها المتخصصة.
في "خارج المكان" كان صريحًا متعديًا حدود الصراحة، والصراحة إن زادت قد تدخل نفق الوقاحة، لكني لم أدخل هذا النفق خلال القراءة، وإن كانت المسافة قريبة أحيانًا منه في بعض التفاصيل.
في بداية صفحات كتابة خارج المكان يتحدث المفكر إدوارد سعيد عن اللقاء العفوي الذي حصل أثناء زيارته للقاهرة في نوفمبر 1998، مع الفرّاش الصعيدي أحمد حامد الذي عمل عند عائلته لفترة 3 عقود وكان يصفه عند رؤيته: "دلف إلى الغرفة رجل صغير نحيل وصلب العود يرتدي الثوب الداكن واللفة، وهما اللباس التقليدي للفلاح الصعيدي، وعندما قالت له المرأتان إن هذا هذا هو إدوارد الذي كنت تنتظر رؤيته بفارغ الصبر، تراجع مُطأطئًا رأسه: لا. كان إدوارد طويلًا يضع نظارتين، هذا ليس إدوارد. وبسرعة تعرفتُ عليه، وهو رجل ساخر ومتزمت في صدقه وإخلاصة، وكنا جميعًا نعتبره بمنزلة فرد من أفراد العائلة، حاولت إقناعه بأني إدوارد حقًا، ولكن بدلني المرض والعمر بعد غياب 38 سنة، وفجأة وقع كل منا في حضن الآخر نجهش بدموع الفرح للقاء المتجدد والحزن على زمن لن يُستعاد". (1)
كان إدوارد سعيد مُلزمًا قرابة 50 سنة كي يعتاد على اسمه إدوارد ويخفف من الحرج الذي يسببه له هذا الاسم الإنجليزي الأخرق الذي وضع كالنير على عاتق سعيد اسم العائلة العربي القح (2)، مع ان امه أبلغته بأنه سمي على اسم أمير بلاد الغال (وارث العرش البريطاني) الذي كان نجمه لامعًا عام 1935. وكان يتحدث أنه كان يتجاوز اسمه ويؤكد على سعيد تبعًا للظروف، وإن كان يفعل العكس، أو إلى لفظ الأسمين معًا بحيث يختلط الأمر على السامع والأمر الوحيد الذي لم يكن يطيقه هو ردود الفعل المتشككة والمدمرة التي كان يتلقاها إدوارد سعيد.
إدوارد سعيد الأمريكي من أصل فلسطيني، المسيحي المدافع بشراسة عن أشقائه الفلسطينيين، كان رجلًا مُخلصًا لبلده الأم، وكان يمثل نقاء الثورة، وكان نضاله صادقًا؛ حيث تبوأ منصب عضو المجلس الوطني الفلسطيني، كانت فلسطينيته مؤثرة على فكره ووجدانه أكثر من أمريكيته التي استخدمها أكثر من مرة لمعاونته على رؤيته فلسطين والقدس، والتنقل بحواز سفر أمريكي كي ينظم مؤتمرًا في لندن عام 1991، وفي عز ضعف القضية الفلسطينية حتى يحاول المشاركة لمحاولة إنقاذ ما يمكن إنقاذه، وإن سارت الأمور بعد ذلك على قاعدة: "العين بصيرة واليد قصيرة"!
تُوفيّ إدوارد سعيد بعد صراع مع مرض سرطان الدم في سبتمبر عام 2003، وما زالت ذكراه وكتبه وأبحاثه شاهده على ما قدَّم وما درّس وما كتب، وسيبقى أحد الأيقونات المضيئة للأدب العربي، خاصة في دراسات الاستشراق.
____________
- كتاب: إدوارد سعيد خارج المكان، ترجمة فواز طرابلسي، دار الآداب ط .الثالثة 2021 م .ص 21.
- ص . 25، نفس الكتاب (بتصرُّف).