مسعود أحمد بيت سعيد
"هذا العالم يسحق العدل بحقارة كل يوم" غسان كنفاني.
طوت الحرب العدوانية الصهيونية الامبريالية على الشعب الفلسطيني منتصف الشهر الرابع وسط صمود شعبي اسطوري منقطع النظير، سطّر خلالها ملاحم بطولية فذة، غير أن الحرب ليست نزهة نروح بها عن النفس، حيث حصدت إلى الآن قرابة 30 ألف شهيد و80 ألف جريح وعشرات الآلاف من المفقودين، وأكثر من مليوني نازح، إضافة للتدمير الكامل للقطاع الصامد الجريح الذي تحول إلى مقبرة جماعية شاهدة على حجم الظلم والجور وازدواجية المعايير وسقوط ما تبقى من القيم الأخلاقية والقانونية.
نعم هذا العالم يسحق العدل بحقارة كل يوم، وهي وصمة عار لا تُمحى من على جبين الإنسانية على وجه العموم والأمة العربية بشعوبها وجيوشها وحكامها على وجه الخصوص، التي تقف عاجزة عن إدخال قطرة ماء لشعب عظيم يأبى أن يرفع الرايات البيضاء في خضم معركة الإرادات أمام الكيان الإرهابي النازي المتعطش للدماء وفي ظل أجواء مناخية قاسية تهدد وجوده أكثر من تهديد العدو نفسه، ناهيك عن الاستغلال البشع الذي تمارسه بعض الفئات الطفيلية التي تستغل مأساة الشعب لجني الأرباح دون وأزع أخلاقي أو وطني وشعب الجبارين، كما كان يردد دائمًا الزعيم الفلسطيني التاريخي الكبير ياسر عرفات، الذي تعلو قيمته وأهميته في هذه الظروف الصعبة، شامخًا في وجه المشروع الصهيوني العنصري الإجلائي الاستيطاني، يودِّع الأحبة وقوافل الشهداء بصمت فلسطين الحزينة المغتصبة التي ترنو وشعبها المكافح إلى الحرية والاستقلال.
لقد أيقظت المعركة الأبعاد التاريخية وأدخلت عوامل عديدة دينية وإنسانية وما زالت تتفاعل على قاعدة لا سلام ولا استقرار بالقفز عن الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني المناضل وإن كانت تجري في ظل أوضاع عربية بائسة لم تنضج بما فيه الكفاية بمقاييس الاستحقاقات وتحدياتها؛ إذ لم تلامس البعد الأكثر تأثيرًا وفاعلية وقابلية للحشد والتعبئة، وهو من الأسباب الجوهرية التي أظهرت العجز العربي الرسمي الشامل سواء اتفقنا أم اختلفنا.
وبما أن هذه الجولة من المواجهة شارفت على النهائيات، فمن المهم رصد مسارها وتداعياتها التي تتمحور حول سيناريوهين أو بالأحرى احتمالين؛ الأول: وقف الحرب، والثاني: توسيع دائرة المواجهة من أجل وقف الحرب، وسنحاول باختصار الاقتراب من هذين الاحتمالين وآفاقهما والنتائج التي قد تترتب عليهما. وإذا أُخذ الاحتمال الأول مدخلًا أوليًا والذي يحظى نسبيًا، بالجهد الإقليمي والدولي، سياسيًا ودبلوماسيًا وقانونيًا، فإنَّ آفاقه بحسب المعطيات واسعة وهو قادم، أكان عاجلًا أم آجلًا، مهما طال مداه زمنيًا، رغم الصعوبات التي تعترضه.
أما الاحتمال الثاني: توسيع دائرة المواجهة ويبدو إلى الآن إمكانيته محدودة طالما جميع الأطراف الفاعلة تلتقي على محاصرته باستثناء الكيان الصهيوني وقيادته اليمنية المتطرفة وعلى رأسها نتنياهو الذي يتهرب من الملاحقة القانونية الداخلية وجاءت الحرب لتضيف أسبابا أخرى في إنهاء حياته السياسية ويسعى لجر المنطقة إلى أتون حرب طاحنة. بيد أن لا أحد يشاطره أوهامه وأحلامه بما في ذلك الولايات المتحدة الأمريكية التي تتوجس خفية من تدحرج الأحداث وتطوراتها التي ستعرض مصالحها للخطر في عموم منطقة الشرق الأوسط كلها، وأعتقد أن الكيان الصهيوني بصرف النظر عن رغبته وطموحه الذاتي وبعيدا عن الربح والخسارة قد أصيب بنكسة معنوية ونفسية ويدرك تبعات أية مغامرة قد يقدم عليها وهو بهذا الضعف والوهن والإرهاق ولن يجرؤ على الانفراد بهذا القرار الاستراتيجي وسيخضع مرغماً للإرادة الأمريكية التي تتماهى شكلا مع فكرة التلويح بالقوة دون استخدامها لعله يُحقق ما عجز عن تحقيقه بالقوة العسكرية.
وبما أنَّ وقف العدوان هو المطلب الراهن فإنَّ إمكانية ترجيحه واردة، دون أن نهمل جميع الخيارات ما زالت مفتوحة؛ حيث الصراعات الاستراتيجية الكبرى ذات الأبعاد المتداخلة عندما تنسد أمامها المجاري التي تسرب احتقاناتها المتراكمة قد تقذف بكافة الاحتمالات الظاهرة إلى المجهول.
لكن.. ماذا بعد وقف الحرب؟ وبأي مدخل سيفتح سؤال اليوم التالي المغلق بمخاطره وأبعاده الفلسطينية والعربية والإقليمية؟ خصوصًا إن لكل فيه قول ورأي حبسته طبيعة المواجهة وأجلت إثارته وهو من السيناريوهات الخطيرة التي يراهن عليها العدو في تفجير التناقضات، ولن تجري كما يتوقع البعض دون تمحيص واستقصاء وتقييم ووضع النتائج الميدانية والسياسية في الميزان؛ سواء على الصعيد الداخلي الفلسطيني أو على صعيد محور المقاومة وكذلك على بقية الجبهات المعادية، وحيث الوقائع المادية والسياسية ستفرض نفسها، فإنها قد تعطي بعض القوى السياسية مساحات أوسع في تجديد خياراتها وبيدها النتائج العملية الملموسة.