الكهنوت السياسي

 

الطليعة الشحرية

أعلنت جامعة إكستر البريطانية أنها ستبدأ "منح درجة الماجستير في السحر والشعوذة"، في سبتمبر 2024؛ حيث "تقدم هذه الدورة للطلاب مناهج في تاريخ وتأثير السحر والشعوذة حول العالم على المجتمع والعلوم"! وقد نُشبِّه السحر والشعوذة في الأزمنة الغابرة بنظام "البروباغندا" أو الدعاية السياسية في عصرنا الحالي، باعتباره أهم أذرع الإعلام الموجه الأحادي المنظور، ويرتكز على رسائل مركزة بهدف التأثير على سلوك ورأي أكبر عدد من الأفراد.

ويكثر المؤمنون بالسحر والشعوذة وإن اختلفت المجالات والمسميات علم الطاقة الروحانيات طاقة الأحجار والألوان؛ فهناك من يرتدي الأحجار التي تجلب الحظ، أو تمثل نقطة اتصال مع شخص أو تُبعد الشرور والحظ السيئ، وبغض النظر عن أهمية دراسة تاريخ وتأثير الشعوذة والسحر وجديته كمنهج دراسي أكاديمي، وعن التهافت العجيب لتداول مقاطع العرافين والفلكيين الذين يتنبؤون بدقة متناهية ببعض الأحداث الحالية.

هل يمكن لعصر قفزت به البشرية بالثورة الصناعية الرقمية والذكاء الاصطناعي إلى قمة تألقها، وبالأخص بعد زراعة شريحة إلكترونية في الدماغ والتي أعلن عنها الملياردير الأمريكي إيلون ماسك مؤخرًا؟ هل يتزامن كل هذا الصعود الاصطناعي المتزامن مع ارتفاع النبوءات التي تضج بها كل وسائل الإعلام إلى انحدار غاشم بالبشرية والسقوط مرة أخرى في مستنقع الجهل؟ وهل نبش والترويج لمُعتقدات وعلوم حرمها البشر في فترات سابقة، ويسمح بتدريسها هو انحصار للبروباغندا الإعلامية المعاصرة وأدواتها والعودة إلى وحل ممارسات البروباغندا الكهنوتية؟

إنه عالم يشرع التطهير العرقي تحت مسمى مُعاداة السامية المغلوطة والكاذبة بصناعة التنبؤ السياسي الموجه والمركز الأحادي المنظور، وهو ذات العالم الذي يجرم السحر والشعوذة جهرا وقطع رؤوس كل من شك بأمره بممارسة السحر لقرون وفي الخفاء مارس عُباد السلطة به الشعوذة سرًا. ما أصل السحر والشعوذة علوم طغت وتحولت إلى أداة قتل وسفك دماء.

كالفضاء الأثيري

الفضاء الأثيري أو كما يسمى بالسجلات "الأكاشية"؛ وهي كلمة ذات أصل سنسكريتي (لغة قديمة في الهند) وحسب هذا المعتقد فهي عبارة عن طاقة الحياة الأساسية، ويوجد بها جميع المعلومات الكونية على هيئة ترددات بها المعلومات عن كل شيء موجود في العالم بدءًا بالأفراد والعالم والكون وفي أزمنة مُتفاوتة الماضي، الحاضر والمستقبل.

وقد ورد ذكر السجلات الأكاشية في القرن التاسع عشر على يد هيلينيا بالفادسكي مؤسِّسة مُعتقد "الثيوصوفية" أي (الحكمة الإلهية). وفي عام 1883 تكرر تداول مصطلح السجلات الأكاشية في كتاب Esoteric Buddhism"" البوذية الباطنية للكاتب "الفريد سينيت" وربط فيه بين السجلات الأكاشية بالتبصير. يتضح من كل ذلك أن السجلات عبارة عن مكتبة أثيرية تشمل معلومات شخصية وعالمية وكونية يستخدمها المستبصرون والعرافون، ومن الغريب أن الولوج لهذا العالم الأثيري يتطلب فهمها وممارسة لما يعرف بالفيزياء الكمية.

يُعد "نوستراداموس" من أشهر العرافين الذين عرفهم التاريخ فهو المتنبئ بحريق لندن الكبير وولادة هتلر، ولا ننسى "إدغار كايس" والذي يعرف باسم "المتنبئ النائم" ومن أشهر من كان يعتمد على إدغار كمرجع، هو المخترع توماس إديسون والرئيس الأمريكي توماس ولسون، وهذا تناقض ساخر بين العلم والمنطق وضرب الودع وحساب النجوم. وإذ تفحصنا الحاضر فإنَّ أشهر وأكثر متنبئيه هما مسلسل "سيمبسون" الأمريكي وليلى عبد اللطيف".

هل لكل هؤلاء القدرة على النفاذ إلى الفضاء الأثيري واستخدام الفيزياء الكمية؟ وهل توجد علوم حُرمت على البشر وسمحت لفئة مُختارة؟ ومن له الحق أن يحرم ويمنع المعرفة؟

الأقبية السرية للفاتيكان!

تُخفي أقبية سرية تحت مكان مقدس العديد من المخطوطات والكتب المُحرَّمة، وشاعت العديد من نظريات المؤامرة عما تحتويه تلك الأقبية إنها مكتبة الفاتيكان، والتي يُقال إنها تحتوي على أرشيف ضخم وثمين وهو نتاج لوجود الكنيسية الرومانية في قارات الأرض الستة طوال ألفي عام. وتم تأسيس هذه المكتبة الهائلة عام 1451 وتضم 1160 كتابًا فقط، منها 400 كتاب باللغة اليونانية لغة العلم في ذلك الوقت. واليوم تحتوي مليونين كتاب وسلسلة مطبوعات و75 ألف مخطوطة سريانية، عبرية، أثيوبية، عربية، فارسية وثمانية آلالف معجم و100 ألف خريطة ورسم وحفرية. ويدخلها كل عام نحو ستة آلاف مجلد تضم مكتبة الفاتيكان مخطوطات لعلماء من العالم العربي كالرازي، وابن سينا، وابن رشد، والغزالي، وابن الهيثم، والفارابي. ويأتي "الأرشيف السري" كجزء من هذه المكتبة، غير أنَّه حتى سنوات قليلة لم يكن مسموحًا للباحثين أو الكتّاب والصحفيين الاقتراب منه. فماذا يحتوي الأرشيف السري؟

"العزيف".. الكتاب المُحرم

تضم مكتبة الفاتيكان نسخًا من كتبٍ محرمة أشهرها كتاب "العزيف" للساحر اليمني عبد الله الحضرمي؛ الذي ترجمه ثيودور فيلاتاس واسماه "نيكرونوميكون"، كما تضم المكتبة مخطوطة "لغة الجان" و"حجر الفلاسفة" و"الخيمياء لتحويل الأحجار والمعادن إلى ذهب".

ومن أغرب المزاعم عن الاختراعات التي تحتفظ بها الفاتيكان هي آلة "الكرونوفايزور" هي عبارة عن آلة لرؤية أحداث الماضي والتي مكنتهم من الحصول على صورة للسيد المسيح وهو على الصليب. فهل تمتلك الفاتيكان آلة الزمن أم عندهم القدرة على التنقل في الفضاء الأثيري والاطلاع على السجل الأكاشي؟ ولماذا تهتم الفاتيكان بكتب ومخطوطات حرمتها الكنسية سابقًا؟

الإسقاط النجمي

الإسقاط النجمي أو الإسقاط الأثيري (Astral Projection)‏ هو تفسيرٌ افتراضيّ لحالَةِ الخروجِ من الجسد وذلك بافتراضِ أنّ هُناكَ هيئةٌ نجميّة تنفصل عن الجسد الفيزيائي قادِرة على السفر خارجه. ويُشير المصطلح إلى قدرة الشخص على ترك جسمِه والسفر عبر الجسم الأثيري لأي مكانٍ يُريده. وفكرة الإسقاط النجمي موجودَة منذُ القِدم في العديد من الديانات حولَ العالم، وتُعتبر كذلك أحد أشكال الأحلام الجلية والتأمل.

وقد شعرَ بعض المَرضى الذين يهلوسون والذين عرّضوا أنفُسهم للتنويم الإيحائي والمغناطيسي الذاتي شعروا بشعورٍ مشابهٍ لحالَة الإسقاط النجمي. وعلى الرُغم من وجودِ بعضِ الأشخاص الذين يدّعونَ أنهم قادرون على القيام بالإسقاط النجمي إلّا أنّه لا يوجَد دليلٌ علميّ على هذا، لذلك فهو يُصنّف ضمن العلوم الزائِفة. وقد باءت العديدُ من محاولات التحقّق من الظاهرة بالفشل. وعلى الرغم من ذلك قد نعتبر أن نظرية الإسقاط النجمي هي الأقرب لتفسير مصطلح السجلات الأكاشية والسفر عبر الفضاء الأثيري.

الكهنوت السياسي

لجأ الإنسان قديمًا إلى السحر والشعوذة والعرافين مرارًا وتكرارًا، خشية من الغيبيات ولعجزه عن فهم الظواهر الطبيعية.  فاستعمل السحر وتخطاه إلى التأليف وامتهان العرافة والتنجيم ومن الملاحظ أن العراف الذكي الحاذق له مكانة اجتماعية وصلت إلى مصاف الموقع الديني الكهنوتي المرموق، وهكذا أصبح السحرة والعرافين والدجالين علماء كهنوتيين عبر التاريخ.  وتحولت العرافة إلى عقيدة وعلم ومن ثم أصبغ عليه لابس القداسة والهيبة الدينية والكهنوتية، وحمل بُعدا آخر أكثر شمولية وروحانية فتحول إلى اعتناق فكري وديني، ومذهبي له أصول وتعاليم ومناهج ونُضم، وبالتالي اكتملت الصورة الكاريزمية للكهنة الذين خلطوا السحر بالكهنوت الفكري.

عند مزج الكاريزما الكهنوتية بالفكر المُتقد ودعمه باستراتيجيات ممنهجة يتمخض لنّا الكهنوت السياسي في أجلّ صورة كسلاح ترهيبي فكري عقلي وروحي.

اختبرت البشرية الكثير من السحرة السياسيين مثل "أدولف هتلر" و"موسوليني" اللذين تمكنا عبر الشعوذة السياسية بالتأثير العقائدي على شعوبهم.  ومما شاع في العهد الناصري عقد جلسات سحر وتحضير أرواح. ما يحصل اليوم في العالم العربي، ما هو إلا نوع من أنواع الكهنوت السياسي والشعوذة الفكرية.

السحر السياسي

الدجل والشعوذة والتنجيم هو أفيون الأزمات، إما لكف أيدي السلطات عن ملاحقة أو رد كيد عدوٍ متربص حاسد. لا يدمن أفيون الأزمات البسطاء فقط؛ بل يطالهم لينال طبقة السياسيين والمثقفين، فهل التكوين العلمي والمعرفي ضحل أم البنية النفسية ضعيفة؟

ومن طرفة التناقض أن نشهد قفزة علمية هائلة في مختلف الميادين تتزامن معها عودة قوية للعرافة والتنجيم والشعوذة والسحر ونظريات المؤامرة والمخطوطات السرية والفضاء الأثيري. ولسخرية الأقدار أن يصبح السحر والشعوذة مادة دراسية جامعية بدرجة الماجستير.

هنا يتوجب أن نقف وقفة تأمل في العلوم التي تُدرَّس في عالمنا العربي وفرز الغث والسمين منها، ويجب تنشيط الدور البحثي والتراجم، ودراسة ظاهرة سياسية خطيرة الكهنوت السياسي السحري وأبعادها الاجتماعية والسياسية.

علينا الخروج من مستنقع الفكر الغيبي والذي تروج له أبواق ممنهجة، أخشى أن تصبح كتب العرافة والطلاسم دساتير للأنظمة العربية، ومرجعياتهم الفلسفية مختومة بشهادة أكاديمية علمية غربية موثوقة، ألا يتوجب علينا شق طريق للعلم والمعرفة لبناء شعوب لا تستمرئ ذل الخرافة وخنوع التنجيم.